الخطبة: زوروا القبور.

بسم الله الرحمن الرحيم
مرّ فارسي بغلام، فقال: يا غلام! أين العمران؟ فقال الغلام: اصعد الرابية تشرف عليهم، فصعد الفارسي ليرى العمران وإذا به يطل على أرض غريبة وديار عجيبة، رأى ديارا بني بالخراب فناؤها، وشيد بالتراب بناؤها، محلها مقترب، ساكنها مغترب، رأى القبر والمقبرة، فعاد الفارسي إلى الغلام، فقال: يا غلام! سألتك عن العمران فدللتني على مقبرة، فقال الغلام: لأني رأيت أهل الدنيا ينتقلون إليها ولا يرجعون.
أخي! جئتك هذا اليوم بعد أن وقفت على شفير قبر قد أعد لي ولك، إي والله يا عبدالله جئتك هذا اليوم بعد أن وقفت على قبر فرأيت منظرا يرق له القلب، وتدمع من هوله العين، يزهد في الدنيا، ويرغب في الآخرة، رأيت مشهدا يذكر بهادم اللذات ومفرق الأسر والجماعات.
أخي! دخلت المقابر هذا اليوم، فرأيت الأصوات هامدة، والرياح راكدة، والأجساد بالية، والديار خالية، رأيت الأقوياء ضعفاء، والأغنياء فقراء، رأيت الشباب الذين ذهب شبابهم، والملوك الذين ذهب ملكهم، والأغنياء الذين ذهب غناهم، ناديت الآباء والأجداد، دعوت الأصحاب والأحباب.
تذكرت الأغنياء والأقوياء والأمراء والوزراء. تساءلت: أين الخلان والجيران؟ أين من كانوا معنا ؟
ناديت... دعوت...
ما للمقابر لا تجيب إذا دعاهن اللبيب
حفر مسقفة عليهن الجنادل والكثيب
فيهن ولدان وأطفال وشبان وشيب
كم من حبيب لم تكن نفسي بفرقته تطيب
غادرته في بعضهن مجدلا وهو الحبيب
وسلوت عنه وإنما عهدي برؤيته قريب
أخي! هل وقفت يوما على قبر؟
عبد الله! أتمنى أن تستمع إليّ بقلبك... هل وقفت يوما على قبر؟
هل وقفت على حفرة من شق أو لحد؟
هل وقفت لتبكي لا لتضحك؟ فكفانا غفلة ومزاحا...
أخي تذكر! هل وقفت على قبر لا مشيعا ولا معزّيا لا.. لا؟
أخي تذكر! هل وقفت على قبر متأملا متعظا واعظا لنفسك؟
هل وقفت على قبر لترى مكانك غدا؟
لترى بيتك ومسكنك؟
لترى مقرّك ومضجعك؟
عبد الله تذكر! هل دخلت يوما إلى قبر؟
نعم! هل دخلت إلى شقّ أو لحد؟
هل استلقيت يوما في قبر؟
هل رأيت عمقه وضيقه؟
هل رأيت سعته وظلمته؟
هل رأيت فراشه وغطائه؟
هل رأيت بنيانه وجدرانه؟
آه من الغفلة... آه من الغفلة والقسوة...
يا ترى ماذا أصاب النفوس من العمى والسكرة؟ حتى القبور أصبحنا في غفلة عنها، استمع إلى نبيك r وهو يقول: (ما رأيت منظرا قط إلا والقبر أفظع منه).
أخي! ما جئت اليوم مخوفا، لكني جئت أقول إن لم تكن وقفت على قبر فقف.. قف رعاك الله.. قف ما دمت قادرا على الوقوف.. قف ما دمت حيا مع الأحياء.. قف ما دمت قادرا على العمل قبل أن تقول رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت فيأتيك الجواب كلا.. قف يا عبدالله لترى منزلا قد ترتحل إليه بعد لحظات وربما سويعات لتجد نفسك وحيدا لا أم ولا أب ولا قريب ولا حبيب في مكان عجيب غريب.. فقف على المقابر.. وقل: يا أهل الديار الموحشة والقبور المظلمة، يا أهل التربة والغربة، يا أهل الوحدة والوحشة، أنتم السابقون ونحن إن شاء الله بكم لاحقون.. قف أخي لتعلم أن الدنيا جيفة عفنة وأنها دار الغرور.. قف لتعلم أننا في غمرة ساهون وفي غفلة معرضون.
يا عبد الله! والله لقد ألهتنا الأموال والدور، وشغلتنا الأولاد والصبيان والشهوات عن القبور.
كان عطاء يرحمه الله إذا جن عليه الليل خرج إلى المقبرة، ثم يقول: غدا عطاء في القبور.. غدا عطاء في القبور..
أخي! إذا وقفت على المقابر متعظا ماتت فيك كل شهوة محرمة، وذهب عن فكرك خواطر السوء، ونسيت الأسهم والمساهمات واللهو والسهر على القنوات والمباريات، وبادرت منيبا تائبا إلى فاطر الأرض والسماوات.
عبد الله! نحن نسعى ونلهو وننام ونصحو ونجري ونعصي ونغفل ونسهو، وننسى أن القبر يستعد يوما بعد يوم، يستعد ليكون نورا أو ظلمة، سعة أو ضيق، رحمة أو عذابا، روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار.
فقبور لأصحابها بالروح والريحان والحسن والجنان قد زينت.
وقبور لأصحابها بالظلمة والضيق والعذاب والنيران قد هيئت.
يقول البراء بن عازب t خرجنا مع النبي r في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر لما يلحد، فجلس رسول الله r وجلسنا حوله كأن على رؤوسنا الطير وفي يده عود ينكث في الأرض فرفع رسول الله r رأسه فقال: (استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثا) ثم قال عليه الصلاة والسلام: (إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوطها، حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس المطمئنة أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فيّ السقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، قال: فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: روح فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى يُنْتَهَى به إلى السماء السابعة، فيقول الله U: اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيسألانه عن ربه ودينه ونبيه r فيجيب، فينادي منادٍ من السماء أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وأفتحوا له باباً إلى الجنة فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مدّ البصر، قال: ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الرائحة، فيقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت فوجهك الذي يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي.
قال : وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع عن الدنيا وإقبال من الآخرة نزل عليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم اللباس الخشن الممقوت فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت فيجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة أخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرف عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: روح فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى يُنْتَهَى بها إلى السماء الدنيا، فيستفتح فلا يفتح له ثم قرأ رسول الله r: ﭽ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮤ ﭼ الأعراف: ٤٠ . فيقول الله U: اكتبوا كتاب عبدي في سجين في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحا ثم قرأ، ﭽ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭼ الحج: ٣١ ، فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه ويسألانه عن ربه ودينه ونبيه، فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي منادٍ من السماء أن كذب عبدي، فأفرشوه من النار وافتحوا له باباً إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوؤك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت فوجهك الذي يجيء بالشر فيقول: أنا عملك الخبيث فيقول: رب لا تقم الساعة رب لا تقم الساعة) رواه الإمام أحمد.
عباد الله هذه حقيقة لا بد أن نمرّ عليها ، والله وتالله ليس بيننا وبينها إلا أن نموت ولا ندري متى نموت، ﭧ ﭨ ﭽ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﭼ لقمان: ٣٤.
قال سفيان الثوري: من أكثر من ذكر القبر وجده روضة من رياض الجنة ومن غفل عن ذكره وجده حفرة من حفر النار.

(الثانية)
أخرج الترمذي في سننه أن النبي r قال: ( قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الآخرة )، زوروا القبور أيها الشيب والشباب... زوروا القبور فهي الدواء لمن قسا قلبه وطال أمله هي الشفاء لمن أصرّ على ذنبه واستعبدته شهوته هناك قل يا أهل القبور إن الديار قد سكنت والأموال قسّمت والأزواج زوجت هذه أخبارنا ما هي أخباركم.
سيجيبك القبر قائلا: خرقت الأكفان، مزقت الأبدان، مصصت الدم، أكلت اللحم، نزعت الكفين من الذراعين، والذراعين من العضدين، والعضدين من الكتفين، والوركين من الفخذين، والفخذين من الركبتين، والركبتين من الساقين، والساقين من القدمين.
أيها القبر... أيها الواعظ الصامت... لقد وعظت وما تركت لواعظ مقالا.
وآهاً لك أيها القبر أخبرنا عن أحبابنا ومن كانوا معنا كيف حالهم؟
هل نفع الغني غناه؟ هل نفع القوي قواه؟ ماذا فعل الشباب بشبابهم؟ ماذا قدّم الجاه لأهل الجاه؟
أيها القبر أخبرنا عن الألسنة التي كانوا بها يتكلمون ويغتابون ويتلعنون.
أيها القبر أخبرنا عن الأعين التي كانوا بها ينظرون ويتلذذون، سلهم عن الآذان التي كانوا بها يسمعون ويطربون.
أخبرنا عن الأجساد التي كانوا بها يتنعمون ويترفون ويعصون ويفسدون وعن الصلاة ينامون ويسهون.
سلهم أيها القبر... أهم منعمون آمنون؟ أم معذبون يصرخون؟
أيها القبر قل للأحياء... إنكم ميتون... قل للأحياء إنكم عن القبر غافلون... قل للأحياء عن قريب سترحلون وفي التراب ستدفنون، فهم السابقون وأنتم بهم لاحقون... أفلا تعتبرون؟ أفلا تذكرون؟ أفلا تتعظون؟ ﭧ ﭨ ﭽ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭼ فاطر: ٥ .
قد مات ما بين الجنين إلى الرضيع إلى العظيم إلى الكبير الأشيب
فإلى متى هذا أراني لاعــــــــــــبا وأرى المنية إذا أتت لم تلعــب
صلوا وسلموا على السراج المنير محمد بن عبدالله عليه أفضل صلاة وأتم تسليم...