تتألَّفالخطبة - من حيث إطارُها العام وهيكلها - من مقدمة وخاتمة، ومن موضوع يربطبين مقدمة الخطبة وخاتمتها، ويكون الموضوع هو حلقة الوصل بينهما، وقدتناولنا عناصر الموضوع، وما ينبغي للخطيب أن يراعيه عند اختياره للموضوع،وسنتكلم فيما يلي بشيءٍ من التفصيل عن مقدمة الخطبة وخاتمتها، وباللهالتوفيق.إن أهمَّ ما ينبغي في الخطبة هومقدمتها المشتملة على براعة الاستهلال، ثم ما في جعبة الخطيب من الأساليبالبيانية واللغوية، ثم وضوح المقصد والمعني بجلاء، ومن خلال جمل قصيرةمؤثرة، وتقسيم الخطبة إلى أقسام واضحة المعالم، ثم موضوعها وهو لُبُّهاوزبدتها، ثم خاتمة الخطبة وهو أن تشتمل على فقرات يسهل تذكُّرها أو حفظهابعد أن ينتهي الخطيب من حديثه، وهذه العناصر متداخلة فيما بينها، يبلغالترابط بينها ذروته وجودته حسب مقدرة الخطيب، وغزارة معلوماته، ومهارتهوخبرته، وإليك البيانَ:- 1 -
أولاً: مقدمة الخطبة:
وهي المدخل والمفتاح للموضوع الذي سيختاره الخطيب، وهي عددٌ قليل منالفقرات التي يمكن من خلالها تقديم تلخيص لأهمِّ جوانب الموضوع، بحيث لاتشتِّت فكر المستمع، ولا بُدَّ أن تكون متناسبةً مع مضمون الخطبة، ومقدمةكل خطبة بحسب الموضوع، والهدف من المقدمة هو جلب انتباه الحاضرين إلى ماوراء المقدمة، وللمقدمة الأثر الفعَّال في نجاح الخطيب أو فشله، فإن كانتالمقدمة بما حوته من ألفاظٍ ومعانٍ محكمةِ المبنى والمعنى، متينة الأسلوب،قوية التأثير، متضمِّنة للمقصود - كان لها الأثر في تنبيه الحاضرين،وإيقاظ الغافلين، و بها يتمكَّن الخطيب الناجح من أن يملك زمام الأمر،ويأخذ بناصية الموقف، وهي بمثابة "الدينمو" المحرِّك لاستكمال الخطبةبهدوء وسكينة وثقة نفس.فمَن أراد أن يوفَّق لذلك فعليه مراعاة ما يلي فيها:
أولاً: أن تتضمَّنالمقدِّمة ما يسمى عند علماء المعاني في علم البلاغة ببراعة استهلال، وحسنالابتداء، وقوة الافتتاح، وأدنى من ذلك حسن الاستهلال.براعة الاستهلال:وهي أن يبتدأ الكلام بما يناسب المقصود والمضمون، وهي تقع في بداية الكلاموديباجته، والخطب تبدأ عادة بحمد الله، والصلاة على رسوله - صلى الله عليهوسلم[1]- ثم الإشارة إلى الموضوع، ثم بخطابات عامَّة... وهكذا: "ولبراعةالاستهلال أثرها في تدعيم موقف الخطيب، وغرس الثقة في نفسه، ليتابع طرحموضوع خطبته بكمال القوة والثبات"[2]،فإذا ما فاجأ الخطيب المستمعين ببراعة التقديم، استطاع متابعة حديثةبنشوة، وثقة عالية، وقد اهتم القرآن الكريم بهذا الأسلوب في مطالع السور،وبداياتها، وتأمل قوله - تعالى -: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى}[النازعات: 15]، "ففي استفتاح قصة موسى - عليه السلام - بهذا السؤال الذيفيه تشويقٌ، وإثارةٌ لذهن السامع براعة استهلال"[3]،مع قِصَر الجملة، وقوة المعنى، وفيه فائدة في طرح القضية على صورةالاستفسار، أو السؤال، وقد سلك عامَّةُ العلماء والأدباء هذا الأسلوب فيمؤلَّفاتهم وأدبياتهم، وذلك بوضع مقدِّمة أدبية بين يدي الموضوع.ولكن يجب أن يراعى في براعة الاستهلال ما يلي:
[4]،التي يغيب فهمها عن العوام، وكذا تجنُّب الألفاظ العامية؛ لأنها تعطيانطباعًا لدى الجمهور على سطحية الفهم لدى الخطيب، وعدم النضوج لديه، ولابأس أحيانًا من استخدام عبارات جديدة؛ من أجل أن تحقِّق انسجامًا بينالخطيب والمستمع، ولكنَّ استعمالها يجب أن يكون بحذرٍ ودقَّة، وخاصَّة تلكالتي تحتمل حقًّا وباطلاً؛ لأنها في بداية الخطبة ومفتاح الدخولللجمهور. 1- أن تتضمَّن الأساليب اللغوية والأدبية الواضحة السهلة، والابتعاد عن الألفاظ المعقَّدة والمبهمة
2- التنوُّع والتجديد في طريقة تناولالموضوع، وأسلوب الاستهلال، والابتعاد عن التكرار في مقدمة الخطبة؛ حتى لاتكون كأنها نسخة مكرَّرة "وبعض الخطباء يستهلُّ خطبته دائمًا بألفاظ معينةيلتزم بها في كل خطبة، حتى أصبحت محفوظة مكرَّرة لدى المصلِّين، تدعو إلىالملل والسأم"[5].3- عند تلاوة الآيات ينبغي عدم عرضهابصورة نصِّيَّة أكاديمية، بل لا بُدَّ من توضيح المعنى من خلال الإلقاء -يعتمد على حسن الإلقاء عند الخطيب - أو استخراج فوائدها ولو بشكل مختصر،كأن يقول الخطيب: "الحمد الذي جعل تقواه سببًا للفرج، ونزول الرزق، وحلولالبركة؛ قال - تعالى -: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2].من روائع براعة الاستهلال ما نُقِل عنالإمام أحمد بن حنبل - نوَّر الله ضريحه - في ديباجة خطبته في الرَّدِّعلى الجهمية حيث قال: "الحمد لله الذي جعل في كل زمانٍ فترةً من الرسلبقايا من أهل العلم، يدعون مَن ضلَّ إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى،يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيلٍلإبليس قد أحيَوْه! وكم من ضالٍّ تائهٍ قد هَدَوه! فما أحسن أثرَهم علىالناس، وأقبح أثر الناس عليهم!... الخ"[6].ثانيًا: مراعاة الوقت:وهي من الأخطاء التي يقع فيها بعض الخطباء، فترى أحدهم يطيل المقدمة،وربما تفصيل ما تحدث عنه في موضوع الخطبة السابقة، فلا يدخل في صلبالموضوع إلا بعد أن تكون الأسماع قد سَئِمَتْ من الإصغاء إليه، ولسان حالالمستمع يقول: أعطنا زبدة الموضوع، وأَرِحنا بالمقصود يرحمك الله؛ ولهذايراعى في المقدمة "أن تكون مناسبة في الطول والقصر لزمن الخطبة، فالمقدمةتُعَادِل من 8:5% من زمن الخطبة؛ لأن الافتتاح يعني: لفت انتباه السامعينفي القصد من الخطبة"[7]، والأفضل أن تكون المقدمة هي عُشْر الموضوع، فإذا تجاوزت الربع إلى النصف فقد تجاوز الحد المطلوب.ثالثًا: التنبيه على موضوع الخطبة سلفًا: وهوممَّا يريح المستمع من الاستنتاج، ويجعله وعاء وأرضًا خصبة لتلقِّيالمعلومة، والأفضل أن يبدأ الخطيب بطرح الموضوع على شكل نقاط، أومَحَاوِر، فيقول مثلاً: كلامنا يدور حول أهمية الصلاة في الإسلام في ثلاثمسائل: هي كذا...، أو يقول: خطبتنا اليوم هي حول العِبَر والعظات المستقاةمن حادثة الإسراء والمعراج، أو يفهم الناس من مقدمة الخطبة بأن موضوعها هوكذا، كأن يقول: الحمد لله الذي جعل الصلاة أعظم أركان الإسلام بعدالشهادتين...رابعًا: من المفيد للخطيب أن يبدأ خطبته بما يجلب انتباه السامعين، من حادثة صادفها، أو قصة قرأها، أو خاطر انقدح في نفسه[8]،وأن يكون الخطيب صاحب مهارة في تصيُّد المناسبات للتوجيه التربوي، وينوِّعفي إيراد الحدث والمناسبة، كأن يقول: قرأتُ اليوم في الأخبار حدثًا أقلقمضجعي، وأثار اهتمامي...، أو يقول: في مثل هذا اليوم حدث أمر مهم جَلَل،وخَطْبٌ جسيم، لا زلنا نعاني آثاره إلى اليوم... ونحو ذلك، ثم يمضي بعدهامسترسلاً في وعظه، ويقرن بين التبشير والإنذار، ويتخيَّر من الحوادث مايكون محورًا لوعظه، ويخرج بعد العرض بحلٍّ لما استجدَّ من حوادث، ومايحلُّ بالمسلمين من بلاءٍ وضيق، ويذكِّرهم دائمًا بأن المخرج والنجاة منالوضع الراهن هو طاعة الله ورسوله.خامسًا: مراعاة ما يسمَّى بهندسة الصوت،وأن تكون نبرات الصوت ملائمةً للحدث، والموقف، والحال، ففي مقدمة الخطبةيستوجب من الخطيب أن يبدأها بقراءة كالقراءة والتجويد تمامًا، فإذا وصلإلى موضوع الخطبة رفع من صوته، وما بين مقدمة الخطبة وخاتمتها يكون صوتهكالرسم البياني، يرفع ويخفض بحسب ما يلائم الموضوع، ومن الأخطاء في هذاالجانب أن يبدأ بعض الخطباء بصوت مرتفع، فلا يَصِل إلى الموضوع إلاَّ وهومتعبٌ منهك القوى، فيفقد كثيرًا من قدراته الصوتية[9].سادسًا: وبالنسبة لموضوع الخطبة يستحسنإذا كان الموضوع شائكًا، أو حسَّاسًا، أو تكلَّم به في مكان آخر فأوجبالانقسام عدم الدخول إليه مباشرة، أو التصريح به في المقدمة؛ بل لا بُدَّمن التدرُّج والتسلسل العقلي المنطقي؛ حتى يصل إلى مطلوبه ومبتغاه، وهنايعتمد على مهارة الخطيب وقدرته على معالجة المشكلة، بما يملكه من علموحكمة: "وجملة الأمر: أن المَطْلَع هو أول ما يستأذن على السمع من الكلام،فإن كان حسنًا، رائقًا ظريفًا، مناسبًا للموضوع، أذن له السمع، وتطلَّعتإلي ما يورده الخطيب بعده، وحثَّها على الشوق إلى الآتي بإضافته إلىالماضي، وهذا سرُّ حسنِ الافتتاح"[10].نماذج من مقدمات لخطب منبرية:
وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم: 4]، وعلى آله وصحبه الذين صلحت قلوبهم، وتهذَّبت أخلاقهم، فدانتلهم مشارق الأرض ومغاربها، وكانوا هم من الفائزين الغالبين.
وبعد، فإنَّا سنتحدث إليكم في موضوع له شأنه وخطره في حياتنا الاجتماعية، ألا وهو إعداد النشء ليكونوا رجالاً كاملين ناهضين..."[11].1- "إعداد النشء ليكونوا رجالاً: الحمد لله الذي خلقنا وسوَّانا، وعلىموائد برِّه وكرمه ربَّانا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أدَّبهربه فأحسن تأديبه، وأثنى عليه بقوله - جل ثناؤه -: {
2- "المحافظة على الصلاة والخشوع فيها:الحمد لله الذي أنزل الشريعة هدًى للناس ورحمةً، وجعلها طريقًا واضحًا إلىسعادة الدارين، والشكر له - تعالى - هدانا للإسلام، وفضَّلنا على جميعالأمم، وأشهد أن لا إله إلا الله أعز الطائعين، وأشهد أن سيدنا محمد أفضلالمصلين، وإمام الخاشعين، اللهم صلى وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه،والحافظين لحدود الله.
أما بعد، فقد قال - تعالى -: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاًتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1- 2]، عباد الله..."[12].- 2 -
ثانيًا: خاتمة الخطبة:
وهي آخر ما ينهي الخطيب خطبته، ويختم كلامه، ويتحقَّق به تمام الموضوع[13]وكماله، ويسمَّى ذلك "حسن الانتهاء"، كما أن براعة الاستهلال تسمَّى حسنالمطلع "وكما يجب التألُّق في المطلع، تجب البراعة في المقطع؛ إذ هو الأثرالباقي في نفوس المستمعين بعد الإتمام، وآخر ما يتردَّد صداه في قلوبهم،وبه تتمُّ الفائدة"[14].أهمية الخاتمة:
للخاتمة الأثر في بقاء قوة الخطبة في أذهان المستمعين؛ لأنها آخر جزءمنها، وهي آخر ما ينساه المستمع من حديث الخطيب؛ والسبب أن المستمع يركِّزعلى مقدمة الخطبة وخاتمتها، أما في وسطها وما يتعلَّق بموضوع الخطبة،فربما أصيب المستمع بقلة التركيز، وشرود الذهن، فوجب على الخطيب الاهتمامبالخاتمة، وأن تكون في غاية الوضوح، والتأثير، والجمال والروعة.أسلوب القرآن الكريم في خواتيم السور:
ولنا في كتاب الله أسوة حسنة، فالمتأمِّل في خواتيم السور يجد أن القرآناهتمَّ بخواتيم السور، فهي في غاية الروعة والبلاغة والبيان كبداياتها،حتى إن المرء ليحار أيُّهما أجمل وأروع بلاغة، وبيانًا، وأسلوبًا، فقدجاءَت خواتيم السور "متضمنة للمعاني البديعة، مع إيذان السامع بانتهاءالكلام؛ حتى لا يبقى معه للنفوس من تشوُّف إلى ما يذكر بعدُ؛ لأنها بينأدعية ووصايا، وفرائض، وتحميد وتمجيد، وتهليل، ومواعظ، ووعيد ووعد، وماإلى ذلك كالدعاء الذي اشتملت عليه الآيتان من آخر سورة البقرة، والوصاياالتي ختمت بها سورة آل عمران؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]"[15].فائدة حسن الختام في الخطب:
[16].1- فمن فوائد حسن الانتهاء والختام أن يتمَّ بذلك إقناعُ المدعوِّين،وتبصيرهم وتنويرهم، وهو إنَّما يتمُّ بإجمال ما ذكر من الموضوع، واختصارما ذكر بأحسن لفظ، وأوجز بيان وأخصره، ولو جعلت الخطبة مبتورةً عن خاتمتهالفات ذلك المقصد العظيم، مع ما يترتَّب عليه من سلبيات، ومخالفة السنة.2- تقوية الرغبة، وشحذ الهمَّة من جديد، بما أوصى به الخطيب من وصايا فيموضوع الخطبة، وهو يتطلَّب بذل الوسع في إلهاب الحماس، وتحريك العواطف،بنفس الاندفاع والإثارة في بداية الخطبة الأولى؛ لئلاَّ تذهب حلاوةالموضوع وحرارته من نفوس السامعين، وليس من السُّنَّة أن تكون الخطبةالثانية مقتصرةً على الدعاء خالية من الوعظ، بل "ينبغي أن يكون لها صلةبالخطبة الأولى، أو فيها استكمال للنقاط التي طرحت فيها، أو استكمالللموضوع بنقاط وأفكار جديدة"
ولذا يتطلب في خاتمة الخطب ما يلي:
[17]،وهو مما يملُّه السامعون عادة، ولا ينبغي للخاتمة أن تحتوى على أفكارٍوأطروحات جديدة تخالف مضمون الخطبة الأولى؛ لأنها حينئذ ليست بخاتمة، بلإنشاء جديد، وهو من شأنه أن يؤدِّيَ إلى ضياع الفكرة وتشتت الذهن.1- أن تكون ملخصًا لما جاء في موضوع الخطبة؛ ليخرج السامع وقد وضحت الفكرةلديه، وتبيَّن المطلوب عنده، ولكن يُرَاعَى في التلخيص أهمُّ ما جاء فيهامن بيانات، ويظهرها في "صورة جديدة وأسلوب رشيق؛ لئلا تذهب حلاوتها، وحتىلا تكون إعادة أدلَّتها من باب التكرار المُمِلِّ المعيب"
2- أن تكون قصيرةً بالنسبة لزمن الخطبةالأولى، ولأن الخاتمة تتضمَّن أمورًا منها: التلخيص، والوصية، وعبارةالختام، والدعاء لولاة الأمر، ولعموم المسلمين، وجعلها أطول من الأولىيفقد الخطبة حلاوتها وتأثيرها بالمرَّة، حتى ولو كانت الخطبة الأولى فيغاية البيان.3- أن تكون في منتهى الوضوح والقوة؛ لأن الخلل أو الزلل يُربِك الخطيب ويضيع جهوده، ويؤدي إلى نسيان موضوع الخطبة بالمرة.4- إن كان موضوع الخطبة مجزَّئًا إلىأجزاء، فيمكن للخطيب بما لديه من مهاراتٍ أن يلخِّصَ في الخطبة الثانية مافي القصة من عِبَر وعظات إلى نقاط، ويَعِدَ الجمهور بتكملة الموضوع فيالجمعة القادمة، كأن يقول: وللحديث صلةٌ أو بقية؛ ليبقى المستمع علىتشوُّق وترقُّب للموضوع، أو القصة.5- يمكن للخطيب أن يهيِّئ الجمهورللخاتمة بعباراتٍ يفهم منها أنها - أي: الخطبة - على وَشْك الانتهاءوالختام، وهو ما يسمَّى بالنغمة المتغيِّرة، وهو ما يعطي تأكيدًا لفظيًّاللمستمع، ويريحه من الانتظار.وختامه مسك:
للخطباء عبارات في الدعاء والوصية في ختام الخطب، يتفننون بها بأسلوب أدبيرائع، فيعرف الناس أنهم قد شارفوا على الانتهاء من حديثهم، وقد كانالخليفة الراشد أبو بكر إذا تكلَّم به عُرِف أنه قد فرغ من خطبته: "اللهماجعل خير زماني آخره، وخير عملي خواتمه، وخير أيامي يوم ألقاك"، أمَّا عمربن الخطاب فكان أكثر خواتيم خطبه: "اللهم لا تدعني في غمرة، ولا تأخذنيعلى غِرَّة، ولا تجعلني من الغافلين"، وكما كان الخليفة عبد الملك بنمروان يقول في آخر خطبته: "اللهم إن ذنوبي قد عظمت، وجلَّت أن تحصى، وهيصغيرةٌ في جنب عفوك، فاعفُ عني"[18].نموذج من خطبة منبرية رائعة[b][19]: موضوعها (كفى بالموت واعظًا):الخطبة الأولى المتضمِّنة براعة الاستهلال وشيء من مقدمتها:الحمد لله رب العالمين، الحمد لله، كتب على خلقه الموت والفناء، وتفرَّد -سبحانه - بالحياة والبقاء، الكلُّ يفنى ويموت، وسبحانه يحيي ويميت، وهوالحي الذي لا يموت؛ {
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 2- 3]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلقنا وكتب علينا الموتَ وجعله سبيلاً للقائه؛ {
قُلْإِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَاكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة: 8]، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، قال له ربه: {
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: 30- 31]، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه وآل بيته الكرام، ومَنْ سار على نهجه واهتدى بهديه إلى يوم الدين.[/b]
وبعدُ:
أيُّها الأحبة في الله، بينما أنا أقلِّب أوراقي وكتبي لأتخيَّر موضوعًالخطبة هذه الجمعة، وقعت عيني على عبارة اهتزَّ لها قلبي، وتألَّمت لهانفسي وهي: (كفى بالموت واعظًا) فجعلتُها موضوعًا لخطبة اليوم؛ وذلكلأنَّنا نوقن بالموت ولا نعتبر، ونعيشه كلَّ يوم ولا نتَّعظ، فما زالبيننا مَنْ لم يجهِّز نفسه للقاء الله، ويعيش في الدنيا كأنَّه لا يموت،فنسمع من يسُبُّ الدين، بل ربما يتجرَّأ على شرع الله مُدَّعيًا ومفتريًاعدم صلاحيته لسير الحياة، ولسان حاله يقول: نحن أعلم بما يصلحنا، ولسنا فيحاجة إلى شرع الله، والله - تعالى - يقول: {أَمْلَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِاللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّالظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 21]، ومِن بيننامَن يترك الصلاة، ويمنع الزكاة، ويتساهل في الصيام، ولا يحدِّث نفسه بحجِّبيت الله الحرام، ومنَّا مَن يعقُّ والدَيه، ويسيءُ الجوار، ويقطعالأرحام، ويأكل الرِّبَا، بل يستحلُّه بعدما حرَّمه الله، ويأخذ الرِّشوة،ويتعاطى المخدِّرات، ويشرب الخمر، ويجاهر بالدُّخان، ويراوغ من عمله،ويعطِّل مصالح العباد.ونجد من بيننا مَن يغترُّ بنعمة اللهعليه، فيطغى بها ويجعلها سبيلاً لمعصية المُنْعِم المتفضِّل، ومن بيننامَن لا يصبر على الفقر فيبيح لنفسه أكل الحرام؛ من سرقة، أو منع الورثة منحقوقهم؛ من أجل ذلك أُذَكِر اليوم بالموت.
لأن الموتَ حقٌّ واقعٌ، وكلُّ الناس ملاقوه، وبكأس المنيّة شاربوه، ولامفر ولا مهرب من وقوعه، وعليه فلنُوليه اهتمامنا، ولنجعله محلَّ فكرنا،ونكون دائمًا له على استعداد، فالموت آتٍ لا ريب فيه، ويقينٌ لا شك فيه؛ {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19]... تتمَّة الموضوع.الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا اللهوحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلوات الله وسلامهعليه وعلى آله وأصحابه، ومَن سار على نهجه إلى يوم الدين.وبعدُ:
أيُّها الأحبَّة في الله، كان عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - يجمعالعلماء فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة، فيبكون حتى كأن بين أيديهمجنازة، وقال أبو نعيم: كان الثوري إذا ذكر الموت لا ينتفع به أيامًا، فإنسُئِل عن شيءٍ قال: لا أدري، لا أدري.وقال الدقاق: مَن أكثر من ذكر الموتأُكرِم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، ومَننسي الموت عُوقِب بثلاثة أشياء: تسويف التوبة، وترك الرضا بالكفاف،والتكاسُل في العبادة، قال التيمي: شيئان قطعا عنِّي لذَّة الدنيا:ذكر الموت، وذكر الموقف بين يدي الله - تعالى.فتفكَّر يا مغرور في الموت وسكرته،وصعوبة كأسه ومرارته، فيا للموت من وعدٍ ما أصدَقَه! ومن حاكمٍ ماأعدَلَه! كفى بالموت مقرِّحًا للقلوب، ومبكيًا للعيون، ومفرِّقًاللجماعات، وهادمًا للذات، وقاطعًا للأمنيات، فهل تفكَّرت يا ابن آدم فييوم مصرعك، وانتقالك من موضعك؟! وإذا نقلت من سعة إلى ضيق، وخانك الصاحبوالرَّفيق، وهجرك الأخ والصديق، وأُخِذْت من فراشك وغطائك إلى قبرك، وغطوكمن بعد لين لحافك بتراب أو رمال، فيا جامعًا للمال، ويا مجتهدًا فيالبنيان، ليس لك والله من مالك إلا الأكفان، بل هي والله للخراب والدمار،وجسمك مطعم للدود، ثم إلى التراب والمآب، فأين الذي جمعته من المال؟! فهلأنقذك من الأهوال؟! تركته إلى مَن لا يحمدك، وقدمتَ بأوزارك على مَن لايعذِرك.فيا أخي الحبيب، أين استعدادك للموتوسكرته؟ أين استعدادك للقبر وضمَّته؟ أين استعدادُك لمنكر ونكير؟ أيناستعدادك للقاء العلي القدير؟ أين أنت من قول الله - تعالى -: {كُلُّنَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَالْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْفَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور} [آل عمران: 185]؟وأين أنت من تحذير الله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لاَ يَجْزِيوَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًاإِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَاوَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُور} [لقمان: 33]، قال سعيد بن جبير: الغرة بالله أن يتمادى الرجل بالمعصية، ويتمنى على الله المغفرة.اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر... بقية الدعاء. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله علىخاتم النبيين، وإمام المتقين، وقائد الزاهدين، وسيد الفصحاء، ورأسالبلغاء، وخطيبهم إذا وفدوا، والشفيع المشفع إذا وقفوا، وعلى آله وصحبهأجمعين.[1] أو البدء بخطبة الحاجة التي أكَّد عليها الشيخ الألباني - رحمه الله - فيكتابه القيم "خطبة الحاجة التي كان رسول الله يعلمها لأصحابه"، طبع المكتبالإسلامي، الطبعة الرابعة سنة 1400، وذكر الشيخ أن السلف كانوا يقدِّمونهابين يدي كتبهم، وفي شؤونهم كلِّها، والبعض يرى أنه ليس بلازم البدء بها فيكل خطبة؛ بدليل أنَّ خطبة الوداع لم ينقل أنه بدأها بخطبة الحاجة، انظر:"خطبة الجمعة ودورها في تربية الأمة"؛ د: عبد الغني مزهر، ص41، وقد أوردبعضَ الأدلَّة عن ابن القيم - رحمه الله - في إسناد قوله. [2] انظر: "خصائص الخطبة والخطيب"؛ تأليف: نذير محمد مكتبي، ص56، طبع دار البشائر الإسلامية، ط2، سنة 1422- 2001. [3] مقال بعنوان "تأملات حول سورة طه"؛ للأخ: محمد العبادي، تجده على موقع أهل الحديث. [4] وذلك مثل الألفاظ التي يستعملها الصوفية في خطبهم ومواعظهم، والتي يصعبعلى العوامِّ فهمها، وبعض الخطباء غلب عليهم استعمال المصطلحات الفكرية،وكأنك تستمع لمحاضرة جامعية، أما الضعف اللغوي فحدِّث ولا حرج. [5] انظر: "خطبة الجمعة ودورها في تربية الأمة"؛ د: عبد الغني مزهر ص41، ومنطريف ما يُذكَر أن رجلاً كان يذهب لصلاة الجمعة، فيرى أحد المصلين واقفًاعند الباب، وتكرَّر الأمر مرارًا فسأله عن السبب فقال: أنا منذ عشرين سنةأصلي في هذا المسجد، والخطيب يلتزم نفس الخطب حتى حفظتها، فلا أجد داعيًالحضوري الخطبة، وإنما أصلِّي صلاة الجمعة فحسب! [6] مقدمة رسالة "الرد على الزنادقة"؛ لإمام أهل السنة أحمد بن حنبل - نوَّرالله ضريحه - حقها أن تكتب بماء الذهب، والرسالة ثبتت نسبتها للإمام بمالا يدع شكًّا أو ريبًا في نفس أحد، انظر في الكلام عن ثبوت الكتاب: مقدمة"الرد على الزنادقة والجهمية"؛ تحقيق: دغش العجمي ص85. [7] رسالة بعنوان "ضوابط في إلقاء الكلمات السريعة أو القصيرة المعروفة بـ( الخاطر)" تجدها على موقع منابر الدعوة.[8] "أصول الدعوة"؛ د: عبد الكريم زيدان، ص343. [9] بحثٌ رائع تجده على موقع الألوكة بعنوان "صوت الخطيب"؛ للشيخ إبراهيمالحقيل، تكلَّم حول أهمية الصوت، وما ينبغي للخطيب من مراعاة أمورٍتتعلَّق بصوته عند الإلقاء، والهدي النبوي في ذلك، فراجعه إن شئت. [10] "فن الخطابة وإعداد الخطيب"؛ للشيخ العلامة: على محفوظ - رحمه الله - ص52، طبع دار الاعتصام. [11] المصدر السابق: ص137، الفصل السادس، نماذج من محاضرات وخطب علمية، دينية اجتماعية، خلقية. [12] المصدر السابق: ص161، الفصل السابع، نماذج من الخطب المنبرية بروح العصر. [13] "خصائص الخطبة والخطيب"؛ تأليف: نذير محمد مكتبي، ص56، ط دار البشائر، سنة 1422- 2001. [14] "فن الخطابة"؛ للعلامة: على محفوظ، عضو هيئة كبار العلماء، ص58. [15] المصدر السابق: ص 58. [16] انظر: "خطبة الجمعة ودورها في تربية الأمة"؛ د: عبدالغني مزهر، ص38،ويراجع في موضوع أخطاء الخطباء القوليَّة والفعليَّة كتاب "القول المبينفي أخطاء المصلين"؛ للشيخ: مشهور سلمان. [17] "فن الخطابة"؛ للشيخ: على محفوظ، ص59، وللخطباء عادة معروفة هي جعل الخطبةالثانية عبارة عن كلمات مكرَّرة خالية من التَّذكير، وهي عادة غير محمودة،ونحن في عصر المتغيِّرات، وباب الإرشاد واسع، وميدانه فسيح، وأمام الخطيبمئات الاختيارات لتحضير مادة الموضوع وخاتمته، والله المستعان. [18] كتاب: "الخطب والمواعظ"؛ بقلم: محمد عبد الغني حسن، ص44، طبع دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية. [19] خطبة للشيخ صبري عسكر، خطيب بوزارة الأوقاف المصرية، تاريخ الخطبة الجمعة3/8/1428هـ، الموافق 17/8/2007م، تجدها في موقع النور الإسلامي.