صلاةالجمعة من أعظم الطاعات التي تقرب إلى الله تعالى، والمسلمون في مشارقالأرض ومغاربها يحرصون على أدائها أكثر من غيرها، ولا يفرطون فيها وإن كانكثير منهم يقصِّرون في الصـلوات الخمس الأخرى، حتى الأعاجم من المسلمين فيالبلاد العربية يحضرونها في المساجد وإن لم يفهموا إلا قليلاً مما يقولهالخطباء.
والمسلمون في البلاد الكافرة من غربية وشرقيةيقيمونها في مراكزهم الإسلامية، ومن عجزوا عن إنشاء مسجد أو مركز أقاموهافي دور بعضهم أو في الحدائق العامة أو غيرها، ولكنهم لا يتركونها - فيالغالب - بحجة العجز عن مكان يجمعهم.
وما يكاد الخطيب يدعوهم عقب الصلاة إلى التبرُّعبشيء من المال لشراء موقع المسجد أو توسيعه أو سداد إيجاره إلا انصرفتأيديهم إلى جيوبهم للمساعدة على ذلك. والمراكز الإسلامية في البلادالكافرة لا تكاد تنفك عن طلب التبرع في كل جمعة، ومع ذلك ما ضجر المسلمونمن كثرة ذلك فتركوا حضورها، ولا أمسكوا أيديهم عن البذل عقب صلاة الجمعةلتشييد مساجد لإقامتها.
وكثيراً ما عجب الغربيون من الجاليات المسلمةحين يُقتِّر أفرادها على أنفسهم وأولادهم لسداد إيجار المركز أو المسجد،أو شرائه، كما يعجبون أيضاً من تنامي المراكز والمساجد في بلاد الغرب،وكثرتها واتساعها شيئاً فشيئاً، ويعجبون أكثر حين يرون الزحام الشديد علىهذه المراكز يوم الجمعة مع خلوِّ الكنائس يوم الأحد إلا من عدد قليل. وكلهذه دلائل على أهمية صلاة الجمعة في دين الإسلام، وعظيم مكانتها في قلوبالمسلمين.
والخطيب حين يعتلي درجات المنبر ليلقي خطبتهيمسك المصلون عن الصلاة وقراءة القرآن وسائر أنواع الذكر والقُرُبات،ويتوجهون بأبصارهم وقلوبهم إلى خطيبهم، ويصغون إليه بأسماعهم، وينتبهونلما يقول؛ فإن استطاع الخطيب أن يشدَّهم إليه باستهلاله البارع، ومقدماتهالضافية واصلوا الاستماع إليه، وتأثروا بمقوله لهم، وإلا ملّـوه وضجروا منضعفه وأسلوبه، وانصرفت قلوبهم إلى أودية أخرى.
والخطيب يلقي على الناس أفكار الخطبة، ويحاولإقناعهم بها، فيستدل لها بالمنقول وبالمعقول أو بأحدهما، وهو يأمرهموينهاهم، والنفوس البشرية لا تحب الأمر والنهي، ولكنها قد تتخذه ديناً إذاعلمت أن ذلك حكم الله - تعالى - وحكم رسوله - صلى الله عليه وسلم - ،فتحبه وتدين به رغم ما فيه من تكليف بواجبات فيها مشقة، أو حبس عن شهواتمحبوبة.
• أهمية الاستدلال بالقرآن:
القرآن معظَّم عند المسلمين، لا يتطرق إليه الشك لدى المصلين، وهو أقوى ما يستدل به أيُّ متحدث في المجتمعات المسلمة: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: ٢٤].
وأوصاف القرآن المنثورة فيما يتلى من الآيات تشدالنفوس إليه، وتحبِّب القلوب فيه، فلا يملك قارئ آياته إلا الإذعان لهوالانقياد، وذلك للأسباب التالية:
1 - فهو الهدى وما عارضه ضلال: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: ٢]، وفي الآية الأخرى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: ٥٨١]، وهدايته تكون إلى ما هو أحسن وأفضل وأقوم في كل الأمور التي تهمُّ الناس في الدنيا والآخرة: {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: ٩].
2 - وهو النور وما عارضه ظلمات، ويُخرجالمنقادين له من جميع أنواع الظلمات - ظلمات الكفر والنفاق والبدعة والجهلوالظلم وغيرها - إلى النور: {قَدْجَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَالظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلَى صِرَاطٍمُّسْتَقِيمٍ} [المائدة: ٥١ - ٦١]، وفي آية أخرى: {هُوَالَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَالظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَإنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحديد: ٩]، وفي ثالثة: {رَسُولاًيَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ} [الطلاق: ١١].
3 - وهو شفاء القلوب وطِبُّها من أدواء الكفر والنفاق والبدع والضلال وأنواع الشبهات والشهوات: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌلِّـمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: ٧٥]، وفي أخرى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِـمِينَ إلاَّ خَسَارًا} [الإسراء: ٢٨]، وفي ثالثة: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت: ٤٤].
4 - وهو السعادة فلا يشقى به قارئه ولا المنقاد له، العامـل به: {مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: ٢]، وفي أخرى: {فَإمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ ولا يَشْقَى} [طه: ٣٢١].
كما أن هجره والإعراض عنه سبب للشقاء في الدنيا والآخرة: {وَمَنْأَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَالْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْكُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَاوَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه: ٤٢١ - ٦٢١].
5 - وهو من أعظم أسباب صلاح القلب، وخشوعه لله تعالى، وخشيته منه، ومحبته له: {قُلْآمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنقَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا *وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَـمَفْعُولاً* وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 7٠١ - 109], وفي الآية الأخرى: {لَوْأَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًامُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَالِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: ١٢].
كل هذه الأوصاف العظيمة للقرآن - وغيرها كثير -يقرؤها المسلم ويسمعها بين الحين والآخر حتى عَظُم القرآن في قلبه، ويكفيهعظمة عند المسلم أنه كلام الله تعالى؛ ولذلك لا يسمح أيُّ مؤمن في أبوابالمجادلة والنقاش لأيِّ شخص كان أن يطعن في صدق كلام الله - تعالى - أويسخر منـه أو يـدعـوه إلى عدم الإيمان به؛ لما للقرآن الكريم من مكانةعظيمة في نفوس المسلمين.
ولأجل ذلك يلجأ الكفار والمنافقون والزنادقةوأشباههم حين يريدون صرف المسلمين عن القرآن إلى تحريف معاني الآيات،ويتركون تكذيبهم لكلام الله - تعالى - أو التشكيك فيه أو الطعن في آياتهمع أنهم في قرارة أنفسهم لا يؤمنون به. وما ذاك إلا لما يعلمونه من مكانةهذا الكتاب العزيز في قلوب المسلمين حتى استولى عليها محبةً له، واقتناعاًبه، وتعبداً بقراءته والاستماع إلى آياته تُتلى.
وإذا كان الأمر كذلك فحريٌّ بالخطباء أن يُولُواالكتاب العزيز أهمية بالغة، فيكون هو المصدر الأول للخطبة كما كان هوالمصدر الأول في جميع علوم الشريعة الإسلامية وفروعها.
• أقسام الآيات في الاستدلال من حيث الكثرة والقلّة:
لا تخلو الآيات التي جمعها الخطيب لإعداد خطبته من حالات ثلاث:
الأولى: أن تكون كافية في الاستدلال، متناسبة مع الخطبة؛ فلا هي كثيرة تطول الخطبة بها، ولا قليلة تؤدي إلى قِصَر مخلٍّ.
الثانية: أن تكون الآيات في موضوعه المختار قليلة.
الثالثة: أن تكون الآيات كثيرة جداً لا يمكنه حشدها كلها في خطبته.
فالحالة الأولى لا إشكال فيها.
وأما الثانية وهي: أن تكون قليلة، بل قد لا يجد فيموضوعه إلا آية أو آيتين، فبإمكانه تغيير الموضوع إلى آخر فيه من النصوصما يخدم خطبته ويقوِّيها.
فإن كان موضوعه مهمّاً كنازلة حاضرة لا يسوغ إهمالها، فبإمكانه معالجة ذلك بخيارات عدة:
الخيار الأول: أن يجعل لموضوعه مدخلاً مناسباً، تكون النصوص فيه متوافرة.
مثال ذلك: لو وقع زلزال مدمِّر، وأراد الخطيب أنيعرض لموضوع الزلازل فسيجد أن الزلازل لم يأت ذكرها في القرآن إلا فيموضعين: أول سورة الحج: {إنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}[الحج: ١]، وفي سورة الزلزلة، وهما في زلزلة يوم القيامة، لا في زلازلالدنيا. وجاء ذكر الزلزلة في موضعين آخرين على الاستعمال المعنوي لاالحسِّي، في البقرة: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة: ٤١٢]، وفي الأحزاب: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْـمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا} [الأحزاب: ١١].
ففي هذا المثال يستطيع الخطيب الحديث عن موضوعات عدة لها صلة بالزلازل، منها:
1 - زلزلة القيامة، والآثار الناجمة عنها مستدلاًبهذين الموضعين، ومستحضراً آثار تلك الزلزلة العظيمة بأوصافها المذكورة فيسورة الواقعة: {إذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا}[الواقعة: ٤]، والتكوير والانفطار والانشقاق والقارعة، ثم يقارن بين ماخلَّفته الزلزلة التي شاهدها الناس من دمار جزئي في الأرض، وما ستخلِّفهزلزلة القيامة من دمار عام في الكون.
2 - الجبال وفائدتها، وكونها أوتاداً تثبِّت الأرض، ويجمع الآيات في ذلك، وهي كثيرة.
3 - قدرة الله - تعالى - على الخلق، وأنهم مهمابلغوا من القوة لا يستطيعون أن يردُّوا عذاب الله عز وجل، مستحضراً مـاوقـع مـن هـلاك المكـذبين السابقـين بأنواع العقوبات، مما حكاه القرآن منقصصهم.
4 - آثار الذنوب والمعاصي، وأنها سبب للعذاب والدمار في الأرض، والآيات فيها كثيرة.
الخيار الثاني: أن يقتصر على ما في موضوعه من آيات ولو كانت قليلة، ويدعم خطبته بالأحاديث والآثار، وهذا حَسَنٌ إن وجد في موضوعه نصوصاً في ذلك.
الخيار الثالث:أن يعوض النقص في ذلك بكلامه هو، ويطيل في الوصف والعرض بكلام إنشائي خالٍمن النصوص، ولستُ أحبِّذ هذه الطريقة وإن سلكها كثير من الخطباء لما يلي:
1 - أنها تحوِّل الخطبة إلى ما يشبه كلام الإعلاميين والأخباريين.
2 - أن على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية نوراًإذا كسا به الخطيب خطبته كانت مباركة، وإذا خلت الخطبة من نصوصهما نُزعتالبركة منها.
3 - أن هذا يجعل خطبته مفيدة في كل زمان ومكان، ولو من النصوص التي جمعها، وإن تغيرت الصياغة والأفكار في ذلك.
وقد ينازع بعض المتخصصين في الخطابة وأساليبها وأبوابها محتجين بأن شخصية الخطيب تذوب في النصوص.
وهذا غير صحيح؛ لأن قدرة الخطيب على جمع النصوص،وحسن عرضها في خطبته، وقوته في الاستدلال بها، وانتزاع ما يفيده منها؛ إنلم يكن أعلى من جودة الأسلوب في الدلالة على براعة الخطيب فليس بأقل منها.
وتصح المنازعة في ذلك لو كان الخطيب ضعيفاً فيالاستنباط والاستدلال بحيث يضع النصوص في غير مواضعها، أو يتعسَّف فيالاستنباط منها، ولا يحسن التعامل معها، أو يهمل قريب الدلالة ويوردبعيدها، ومن كان هذا حاله فالعلّة فيه لا في نصوص الوحيين.
وقد ثبتأن النبي - عليه الصلاة والسلام - خطب بسـورة (ق) كـما في حديث أم هشامبِنْتِ حَارِثَةَ بن النُّعْمَانِ - رضـي الله عنها - قـالت: ((ماحَفِظْتُ (ق) إلا من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ بهاكُلَّ جُمُعَةٍ))[1]، وكفى بها موعظة بليغة لمن ألقى السمع وهو شهيد، وسأفرد مقالة خاصة في الخطبة بآية أو آيات أو سورة - إن شاء الله تعالى.
وجاءفي حديث جَابِرِ بن سَمُرَةَ - رضي الله عنه - قال: «كانتلِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - خُطْبَتَانِ يَجْلِسُ بَيْنَهُمَايَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيُذَكِّرُ الناس))[2]، واستناداً إلى ذلك فإن من الأئمة من يشترطون لصحة الخطبة قراءة ولو آية فيها.
والخطبة خطاب شرعي محض، له أحكامه التوقيفية،فلا يُقاس بالأعمال الأدبية التي يُتَوَسَّع فيها، ويُظهر الكاتب شيئاً منبلاغته وفنِّه.
موضوعات لا نصوص فيها أو هي قليلة:
قد تكون بعض الموضوعات ملجئة للخطيب إلى عدم الإكثارمن النصوص؛ كحديثه عن سِيَر الأعلام وقصص التاريخ والمغازي ونحوها، وهذهالموضوعات ونحوها بإمكان الخطيب أن يجد لها من النصوص ما يناسبها سواء فيثنايا القصة أو الغزوة أو في الدروس المستفادة منها.
كذلك بعض القضايا المعاصرة قد تلجئ الخطيب إلىالتقليل من النصوص بسبب تناول الخطيب الموضوع من جانب تاريخي أو عقلي يرىأنه مهمٌّ؛ كالحديث عن تاريخ بيت المقـدس أو تاريخ بعض الفِرَق، أو بعضالمصطلحات الحادثة ونحو ذلك، ومثـل هـذه الموضوعات يُعذَر فيها الخطـيب،ولا سيما إذا دعت الحاجة إليها لنازلة فرضتها واقعاً، والناس يتحدثونفيها، وينتظرون تحريراً شرعياً لها من الخطباء.
ولكن الخطيب يُعاتَب ويُؤاخَذ إذا كانت السمةالغالبة لخطبه فيها إعراضٌ عن النصوص، أو يقلل منها لحساب إنشـائه وبـيانهوبلاغـته، أو لحساب ما يعرضه من قصص أو أقوال أو حجج عقلية أو غير ذلك.ويشتد العتاب عليه إذا كان الموضوع الذي يختاره مملوءاً بالنصوص القرآنيةوالنبوية فيُعرض عنها إلى ما هو أدنى منها من حجج وقصص وأقوال ونقول.
وليعلمالخطيب أن من أهمِّ مهماته التي يرتقي درجات المنبر لأجلها: تربية الناسعلى تعظيم نصوص الوحيين، وتقديمها في الاستدلال على غيرها، والإذعان لها،والتسليم بها، وعـدم مـنازعـتها بـما هـو دونـها من حجـج أو قصص أو أقاويلأو نُقول ونحوها.
فإذا كان الأمر كذلك فكيف يقبل الناس دعوة خطيبإلى تعظيم الكتاب والسنة، والتسليم بهما، وهم يرونه قليل الاستدلال بهما،مستبدلاً بهما غيرهما؟!
وأحسب أن هذه اللوثة المستهينة بنصوص الكتابوالسنة تسرَّبت إلى الخطباء من المناهج العقلانية التي تُعنى بحجج العقلعلى حساب النص، أو من الاتجاهات الأدبية التي تُعْلي من شأن الإنشاءوالأساليب البلاغية واللغوية وتقدمها على النصوص. كما أن انتشار لغةالصحفيين والإعلاميين في الآفاق أثَّر سلباً على بعض الخطباء فصاروايحاكونهم في أساليبهم، ويستخدمون ما أحدثوه من مصطلحات ومفردات وعباراتبلا نظر في صحتها اللغوية، أو عدم مخالفتها الشريعة.
ولا ينبغي أنيُفهم من تقرير ذلك أن نصوص الكتاب والسنة تعارض الحجج العقلية أوالأساليب البلاغية؛ فالقرآن مملوء بتقرير ما يوافق العقول الصريحة، ويحويكثيراً من الآيات التي تُعْنى بمفردات العقل والبرهان والآية والدليلونحوها، وهكذا السنَّة.
وكلام الله - تعالى - هو أبلغ الكلام، وكثير منقوانين اللـغة وقـواعـد الـبلاغـة إنما أُخـذت مـنه، ويستدل به لها أوعليها، وما عارضه من قواعد اللغة والبلاغة والبيان فليس بشيء، ولا يحتج به.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد أُوتي جوامعالكلم، وهو أفصح البشر وأبلغهم، وأحاديثه الجامعة للمعاني الكبيرة الغزيرةفي كلمات قليلة تدل على ذلك.
بيدَ أن بعض الخطباء يتأثر بالمناهج الفلسفيةالكلامية في الاستدلال، أو يجنح إلى أساليب أهل البلاغة والبيان على حسابنصوص الكتاب والسنة.
وأما الحال الثالثة وهي: أن تكون الآيات كثيرةجداً لا يمكنه حشدها كلها؛ كالخطبة عن التقوى فإنها جاءت ومشتقاتها فيأكثر من أربعين ومئتي موضع من القرآن، والصبر جاء ذكره فيما يزيد على مئةآية؛ هذا عدا موضوعات التوحيد والترغيب والترهيب، وذكر الجنة والناروغيرها.
وفي هذه الحالة للخطيب خياران:
الخيار الأول:أن يرتب ما يناسب للاستدلال من هذه الآيات على وحدات موضوعية، يضم الآيةفيها مع نظيرتها، مثل: جمعه للآيات الآمرة بالتقوى، ويجمع آيات ثمراتالتقوى، وآيات صفات المتقين... وهذه الطريقة وإن كان فيها مشقة فإنهاتمكِّن الخطيب من صنع خطب عدة في الموضوع الواحد ليس فيها تكرار، وتزيد منقوته العلمية واستحضاره للآيات، ومعرفته طريقة القرآن في عرض الموضوعات.
الخيار الثاني: أن يختار من هذا الكمِّ الكبير من الآيات ما يراه مناسباً لخطبته.
وثمَّةأمر مهم وهو أن كثيراً من الخطباء لا يطلعون على كل الآيات في الموضوعالذي سيخطبون فيه، وفي هذا شيء من القصور، وقد يؤدي إلى ترك الاستدلالبآيات هي أقوى في الدلالة على موضوعاتهم من الآيات التي اختاروها.
• ما يلزم مراعاته في الاستدلال بالآيات:
في الاستدلال بالآيات القرآنية أرى أنه ينبغي للخطيب مراعاة أمور:
أولها:التأكد من كون الآية أو موضع الشاهد منها قد كتبه بشكل صحيح لا خطأ فيه؛وذلك يكون بمراجعة المصحف، وعدم اعتماده على حفظه مهما كان قوياً؛ لأن بعضالآيات تشتبه بالأخرى، وقد يكون فيها زيـادة كلـمة أو حرف لا ينتبه لهفيقع في الخطأ، أو في القَلْب بالتقديم والتأخير، أو إسقاط شيء منها؛ ولأناستحضار آية واحدة أو جزء منها أكثر احتمالاً للخطأ من القراءة المستمرةللسورة كلها أو جزء كبير منها.
وأرى أن الخطيب لا يعذر بخطئه في الآيات؛لإمكانية عدم الوقوع في ذلك إذا وجد الحرص والاهتمام، وقد يترتب على ذلكمفاسد كالخطب التي تسجل أو التي تنقل على الهواء مباشرة في القنواتالفضائية، أو مواقع الشبكة العالمية، فتنتقل إلى الناس، وتنتشر في الآفاقبالخطأ الذي في بعض الآيات، ويكون ذلك أخطر إذا ترتب على الخطأ فسادالمعنى.
ويُعذَر الخطيب في ذلك إذا كان يرتجل الخطبة؛لأن الإنسان يسهو ويغفل ويخطئ، وتشتبه عليه النصوص في بعض الأحيان، ولكنإذا كثر ذلك منه حال ارتجاله بسبب ارتباكه أو ضعف حفظه فيجب عليه كتابةهذه النصوص، وقراءتها من الورقة.
ثانيها: التأكد من صحة استدلاله بالآية.
والخطأ في الاستدلال يكون من أوجه:
أ - قد يسوق الآية لمعنى يريده وهي لا تفيد ذلك المعنى، وسبب ذلك اعتماده على فهمه لظاهر الآية، وعدم مراجعته كتب التفسير.
ب - أو يكون في الآية أقوال عدة يختار أحدها - وقد يكون قولاً ضعيفاً أو شاذاً - فيحمل الآية عليه.
جـ - أو يكون في الآية أقوال أخرى متساوية، أو بعضهاأقوى من بعض، أو هي من قبيل اختلاف التنوع، فيحصر معنى الآية في القولالذي اختاره وهي تدل على المعاني الأخرى أو الآية تحتملها.
ثالثها:التركيز على موضع الشاهد من الآية؛ فمن شأن ذكر كل الآية والشاهد جزء قليلمنها؛ أن يشوش على المستمع، وقد يضيع منه موضع الاستشهاد ولا سيما إذاكانت الآية طويلة.
رابعها:أرى أن لا يرتل الآية أو موضع الشاهد منها، أو يميزه عن سائر كلامه، كماهي طريقة بعض الدعاة والوعاظ والخطباء؛ لأنه ليس في محل القراءة والتعبدبها حتى يرتل الآيات، وإنما هو في موضع الاستشهاد وإثبات ما يقول بآياتالقرآن، وللاستشهاد محله وطريقته كما أن للتلاوة محلها وطريقتها، ولا يحسنالخلط في ذلك. وكما أنه لا يسوغ لمن يقرأ القرآن إلا أن يرتله، ولا يقرأبعض الآيات كما يقرأ كلاماً آخر غير القرآن؛ فكذلك لا يسوغ لمن يستشهدبالقرآن أن يسوقه مساق الترتيل.
خامسها:ينبغي له أن يرتب الآيات التي يستشهد بها حسب ترتيب سورها في القرآن؛ لأنالإجماع منعقد على أن ترتيب الآيات توقيفي، وأما ترتيب السور فقال قوم:إنه توقيفي، وقال آخرون: إنه اجتهادي، ولو قيل: إنه من اجتهاد الصحابة رضيالله عنهم؛ فإن الأمة أجمعت على مصحف عثمان رضي الله عنه، وعلى ترتيبسوره. فإن كان ترتيب سوره توقيفياً فأُحب للخطيب أن يلتزم به، ولا يخالفه،وإن كان من اجتهاد الصحابة - رضي الله عنهم - فاجتهادهم خير من اجتهادنا،ثم إن انعقاد الإجماع على هذا الترتيب يجعله حجة.
وأرى أنه يحسن بالخطيب أن لا يخلَّ بترتيبالآيات في الاستشهاد عن ترتيب آيات المصحف وسوره إلا لمعنى يقتضي عدمالترتيب؛ كأن تكون الآية التي يقدمها نصاً فيما يريد، والآيات الأخرى تفيدالمعنى ذاته، وآيات أخرى يستأنس بها، فيقدم ما يكون نصاً في قضيته علىغيرها من الآيات لقوة دلالتها على ما يريد، ثم يتبعها بالآيات الموافقةلها في المعنى، ثم الآيات التي يستأنس بها.
سادسها:إذا كان عنده عدد من الآيات التي يستشهد بها، وبعض هذه الآيات واضحالدلالة للمستمع، وبعضها بعيد المنزع عما يريد، أو يتطرق إليه الاحتمال؛فالأَوْلى أن يقتصر على الآيات الواضحة دون غيرها؛ لئلا يُحْدِث بذكرالآيـات المحتـمـلة تشويشاً على المـستمع، وتضعف في ذهنه القضـية الـتياستدل لهـا الخطـيب بهذا الدليل المـحتمل، أو بعيد الدلالة.
وإذا كانت القضية محل نزاع في المجتمع،وتتجاذبها أطراف شتى؛ كالحجاب والسفور، والاختلاط وعدمه، وخروج المرأةوقرارها في البيت، وقضايا الحرية والديمقراطية والانتخابات؛ فكل هذهالقضايا ومثيلاتها محل نزاع بين التيارات العَلْمانية من جهة، والتياراتالإسلامية من جهة أخرى، وصوت الدعاة والعلماء فيها يكون في المساجد وعلىالمنابر وعبر وسائل إعلام محدودة، وصوت العَلْمانيين فيها يكون في الصحفوأكثر المجلات والقنوات الفضائية والإذاعية، والناس يشهدون هذه المعاركالفكرية، ويعيشونها كل يوم، فأرى أن لا يكون استدلال الخطباء على ما يرونهحقاً في تلك القضايا إلا بالأدلة الواضحة التي لا ينازع فيها إلا مكابر؛لأن من شأن الاستدلال بالأدلة المشتبهة أو المحتملة أو الضعيفة الدلالة أنيقضي على قضيته في أذهان الناس، ولو جاء بالأدلة الواضحة معها؛ لما يلي:
أولاً:إن الأدلة الواضحة على المعنى الذي يريده تفي بالمقصود، وهو يخاطب مسلمينمستسلمين - في أغلبهم - للنصوص الشرعية، ويكفيهم منها دليل واحد واضحللقبول والانقياد عن عشرة أدلة ليست واضحة، أو في الاستدلال بها عسف وتكلف.
ثانياً:إن الأدلة المحتملة قد تنسي المصلين الأدلة الواضحة، وقد ينشغلون بالتفكيرفي مدى صحة الاستدلال بها أو الإيرادات التي ترد عليها عن الاستماع إلىالخطيب، فيصرفهم أو بعضَهم عنه، وهو يريد منهم الاستماع إليه.
ثالثاً:إن الخصوم يتعلقون بضعيف الدلالة ويجعلونه أصلاً في المناقشة، فتنقلالقضية من أصلها إلى مناقشة دليل محتمل أو ضعيف، فيُحشَر الخطيب في زاويةالدفاع عن استدلاله، وتُنسى القضية الأصل، وللمنحرفين مكرٌ كُبَّار فيذلك، وبراعة في التشويش على العوام من هذا الباب، ولا سيما أن أكثرهم ممنإذا خاصم فجر.
وحتى لو لم تجرِ مناقشة ذلك مع الخطيب في حينه؛فليفترض الخطيب أن المصلين عقب الجمعة يناقشون في مجالسهم ما قاله الخطيب،وفي الغالب نجد أن مجالس الناس تجمع التيارين أو المتعاطفين مع أحدهما،فإذا أثبت المخاصم للناس ضعف استدلال الخطيب بدليل واحد من عشرة أدلة فيقضيته التي ساقها فإنه يكسب بذلك أمرين:
1 - صرف نظر الناس عن موضوع الخطبة وأدلتها الأخرى إلى هذا الدليل الضعيف أو المحتمل.
2 - التشكيك في كل ما ذكره الخطيب من القضايا الأخـرى، بل التشكيك فيما سيلقيه مستقبلاً، ونزع ثقة الناس فيه.
سابعها:إذا أنهى الخطيب صلاته، ثم سئل عن معنى في آية استشهد بها، أو أورد أحدالمصلين عليه إشكالاً في استدلاله، أو دليلاً آخر ينقض ما قرره في خطبته،فلا يخلو الخطيب من حالين:
الأولـى:أن يكــون عنـده جـواب لهـذا الإشكال، ويعلم ما قد يورد على استدلالاته منأدلة أخرى، ولديه أجوبة لها - ولا يتأتَّى ذلك للخطيب إلا بالتحضير الجيد- فَلْيُزِلْ تلك الإشكالات، ويُجِبْ عنها بما آتاه الله - تعالى - من علموفقه وتحضير جيد لموضوعه.
الثانية:أن لا يكون عنده جواب لهذا الإشكال، ولا يعلم بالأدلة التي أوردت عليه،فلا يجوز له حينئذ أن يُخلِّص نفسه من هذا المأزق بالكذب، أو بنفي ما لايعلم مع احتمال ثـبوته، ولا يَحِلُّ له أن يُصِرَّ على رأيه وهو غير متأكدمما أُورِد عليه، وسأورد مثالاً على ذلك - إن شاء الله تعالى - من السنَّةفي مقال مستقل بعنوان (استدلال الخطيب بالسنة).
ثم إن المناقشين لما في الخطبة من معلومات على أَضْرُبٍ ثلاثة:
الأول:أهـل العـلم والفـقه والفضـل ممن يـوقن الخطيب أو يغلب على ظـنه صـوابـهـموخـطـؤه، وهـؤلاء يجب عليه أن يخـضـع لهـم، ويستفيد من علمهم، ويشكرهم علىتعقُّباتهم له.
الثاني:المسترشدون، وهم غالباً ناصحون محبون للخير، متأثرون بالخطبة، ويريدونالتطبيق والعمل، فيسألون عن بعض التفصيلات، أو انقدحت عندهم إشكالات مماذكره الخطيب؛ لوجود مقررات سابقة لديهم، أو نصوص تعارض ما قاله خطيبهم.
وهؤلاء يجب على الخطيب العناية بهم، والتلطف معهم،وإزالة ما لديهم من إشكالات. فإن قدر الخطيب على ذلك ساعة سؤاله فذاك،وإلا طلب منهم إمهاله حتى يبحث مسائلهم فيجيبهم عنها، وبحثه لها يفيده هوأكثر مما يفيدهم هم.
الثالث:المكابرون المتصيدون، وهم غالباً لا يكونون على وفاق مع منهج الخطيبوأفكاره، أو في قلوبهم ضغينة عليه، أو حسد له، فيريدون إسقاطه وإحراجه.
وأرى في تعامل الخطيب مع هؤلاء أن يدرأهم عنهقدر الإمكان، ويداريهم في الحق ما استطاع، ويجتنب جدالهم ومناقشتهم؛ لأنهمليسوا طلاب حق. والمجادلة معهم تحقق غرضهم، وقد تصل بالخطيب إلى حدالمماراة التي نهي عنها، والإعراض عنهم خير من مواجهتهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أخرجه مسلم (873).
[2] أخرجه مسلم (862).