بر الوالدين والإحسان إليهما وحُسْن
الخُلُق معهما من أعظم الفرائض، حتى إن الله قرنه مع توحيد الله في العبادة، في
عدد من الآيات، منها قوله تعالى: ﴿وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ
بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [النساء: 36].
فهما صاحبا فضل علينا، وسبب بعد إرادة
الله في وجودنا، فلا بد أن نحترم هذا السبب، ومن لم يتأدب مع والديه وهما أمامه،
وفضلهما ظاهر عليه؛ كيف سيتأدب مع الله، وهو غيب عنه، قد يخفى عليه فضله.
ومن
لم يكن خلوقاً مع والديه المتفضلين عليه، فكيف سيكون خلوقاً مع غيرهما من الخَلْق،
لذلك كان الأدب مع الوالدين أساس دال على زكاة النفس وحُسْن تقديرها، وأساس للأدب
مع الله، وأساس للإحسان إلى الخلق.
وقد
ذكرنا الله بفضلهما وتعبهما لأجلنا، ووجوب شكرهما بالإحسان إليهما، في مثل قوله: ﴿
وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ، حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ،
وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ، أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ
﴾ [لقمان: 14].
والإحسان
إلى الوالدين يندرج تحته أمور كثيرة، منها: حسن الكلمة وعدم الإساءة بالشتم
والتأفف، وحسن المعاملة والخدمة، وطاعتهما في ما ليس بمعصية، وعدم التضجر من
طلباتهما، ووجوب الإنفاق عند الاستطاعة، وعدم استثقال ذلك، وقضاء حوائجهما، والحرص
على راحتهما وعافيتهما، وعدم التأخر عن ذلك، وصلتهما بالزيارة قدر المستطاع،
والسؤال عنهما إن بعد عنهما، ودلالتهما على الحق إن جهلا أو خالفا، والدعاء لهما
في حياتهما وبعد مماتهما، والاستغفار لهما.
كل
ذلك وغيره يدخل تحت قوله تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ
إِيَّاهُ، وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ
أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا
وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ
الرَّحْمَةِ وَقُل رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 24].
فالله
تعالى يريد منا أن يصل البر والإحسان إلى الوالدين إلى حَدٍّ يحسان فيه كأن ولدهما
له أجنحة يحملهما عليها، ينخفض لهما ويتواضع، ويكرمهما ويعزهما ويرحمهما، يجعلهما
يحسان بالحنان والراحة، كل ذلك داخل في قوله سبحان: ﴿ واخفض لهما جناح الذل من
الرحمة ﴾، فتأمل هل بلغت هذا الحد الواجب من البر بوالديك.
حتى
الوالدان الكافران قد أمرنا بصحبتهما بالأدب والمعروف، ﴿ أن اشكرْ لي ولوالديك إلي
المصير، وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا
تُطِعْهُمَا، وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً، وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ
أَنَابَ إِلَيَّ، ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ
تَعْمَلُونَ ﴾ [لقمان: 14-15]، فما بالك ببر الوالدين المؤمنَين.
ومن
أعظم المعروف والشكر الذي ينبغي أن يبذله الإنسان لوالديه الكافرين أو الضالين أو
العاصيين؛ أن يدلهما على الحق والهداية، ويذكرهما بالله، ويحملهما على الحق،
بالحكمة والموعظة الحسنة، مع الأدب والتواضع واللّين، فأعظم البر لهما أن تكون
سبباً في دخولهما الجنة، وما الفائدة إن أحسنت الكلام وأنفقت عليهما، وتركتهما في
ضلال وأنت تستطيع أن تنقذهما من النار والعذاب.
كثيراً
ما تحصل مواقف بين الأبناء والآباء، لا يحسن الطرفان التعامل فيها وفق ضوابط
الشرع، فعلى كل واحد أن يعرف حدوده التي حدها الله له.
فمن
واجب الولد أن يحسن ويطيع والديه فيما يرضي الله أو فيما أباحه الله، فإذا أمراه
بمعصية أو مخالفة فلا طاعة لهما، « لا طاعة لمخلوق في معصية الله ».
ومن
أهم الضوابط في هذه المسألة أن يقارَن بين الأمر الذي يأمر به الوالدان والأمر
الشرعي الذي يقابله على النحو الآتي:
1.
إذا كانا محتاجين لخدمته أو أمراه بأمر مباح فإن يصير فرض بأمرهما، لكنه إذا كانت
طاعته ستكون سبباً في تفويت فريضة عينية وجب عليه أن يقوم بفرض العين إذا ضاق
وقته، وإذا كان الوقت يتسع لفرض العين ولطاعتهما وجب عليه الجمع بين الأمرين، وحالات
الضرورة الملحة تقدر بقدرها، كإنقاذهما وأخذهما إلى المستشفى عند الضرورة
المستعجَلة، فلواجبات الوقت أحكامها الخاصة.
2. إذا احتاجا خدمته أو أمرا بأمر مباح
وترتب عليه ترك فرض كفاية، ووُجِدَ من يقوم بالكفاية، تعين عليه طاعتهما وقضاء
حاجتهما، وعلى هذا يحمل حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما حيث قال: «جاء
رجل إلى النبي r فاستأذنه في
الجهاد، فقال: أحيٌّ والداك، قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد »
([وحدهم المشرفون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]).
3.
إذا أمراه أو احتاجاه في خدمة مباحة؛ فكانت سبباً في ترك شيء من السنن أو النوافل؛
وجب عليه الطاعة في ذلك وعدم التأخر، لأن المباح بأمرهما يصير فرضاً، وما يقابله
سنة ونافلة فتقدم الفريضة على النافلة، وعلى هذا يحمل حديث النبي r عن رجل من عُبّاد
أهل الكتاب كان يصلي نافلة وطلبته أمه لحاجة لها فأتم صلاته وتأخر عنها فدعت عليه
أن يريه الله وجوه المومسات، فاستجاب الله لها.
4.
أما إذا أمراه بترك نافلة أو سنة لغير حاجة منهما إليه؛ لم يجب عليه طاعتهما، وعلى
هذا يحمل ما رواه البخاري عن بعض التابعين أنه قال: « لو أن امرأة نهت ولدها الصبي
أن يذهب إلى صلاة العشاء في جماعة خوفاً عليه لم يطعها »
([وحدهم المشرفون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]).
وكذلك
لو أمره والداه بحلق اللحية أو تقصيرها خوفاً عليه، لم يجب عليه طاعتهما، بل لا
يجوز له طاعتهما في ذلك، لأنه لا يُؤَثِّر في بِرِّهما، ولا يسبب ضرراً لهما، إلا
إذا كان ما يأمران به له وجه شرعي، كالأحكام التي تراعى فيها المقاصد؛ فيُعمَل به
على وجهه الشرعي.
وكذلك لو أمراه بترك قراءة القرآن أو
قيام الليل أو صيام النافلة، ولم يكن لهما إليه حاجة، وليس في نافلته هذه تأثير
على برهما أو تقصير في حاجاتهما؛ لم يجب عليه طاعتهما، أما إذا أمراه بأمر أو حاجة
لهما، فاقتضى ذلك ترك قراءة القرآن أو القيام أو الصيام؛ وجب عليه حينئذ تنفيذ
أمرهما ولو فات القيام أو الصيام.
وإذا كان في إفطاره في صيام النافلة
إكرام لهما وإيناس لهما؛ فعندئذ يندب له الإفطار، لا سيما في أول النهار، ويجب عند
بعض الفقهاء إذا أمراه بذلك.
ـ
ومن واجب الوالدين أن لا يطلبا من الولد ما لا يرضي الله، فطاعتهما ليست فوق طاعة
الله، وليس من حقهما أن يهددا أولادهما بالغضب إذا لم يطيعوهما في أمر لا يجب
عليهم الطاعة فيه.
كأن
يطلبا من الولد طلاق زوجته الصالحة لغير سبب شرعي صحيح.
أو
يطلبا منه زواج بنت لا يرغب فيها، أو يطلبا من بنتهما زواج رجل لا تراه أهلاً أو
لم ترغب فيه
([وحدهم المشرفون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]).
أو
يطلبا من ولدهما ترك عمله ـ وهو محتاج إلى ذلك العمل ـ وليس في عمله معصية أو
إيذاء لهما أو سبب يستدعي ترك العمل.
أو
يطلبا منه ترك صحبة الشيوخ المربين والمعلمين الصالحين، الذين ينتفع على أيديهم
ويزداد قرباً إلى الله ومعرفة لدينه وتزكية لنفسه، وهو غير مقصر في برِّه والديه
والقيام بحقوقهما.
أو
يطلبا منه ترك الدعوة إلى الله، وترك العمل للإسلام، وهذا العمل لا يفوِّت
حقوقهما.
أو
يطلبا منه ترك دراسته وليس فيها ما يغضب الله أو يؤخره عن طاعتهما.
أو
يمنعا ولدهما من دراسة العلم الشرعي ليعمل بأعمال الدنيا وهو غير مضطر لعمل الدنيا
وعنده كفافه وليسا بحاجة إلى إنفاقه عليهما أو إلى خدمته لهما.
وإذا
كان العلم
الشرعي
الذي يطلبه
مما هو
فرض عين
عليه أن
يتعلمه،
لم يطعهما،
وإن كان
مما هو
علم مندوب
([وحدهم المشرفون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط])،
فيطيعهما
إن كان
بحاجة
إليه،
وإن لم
يكن لهما
إليه حاجة
لم يجب
عليه طاعتهما
في ترك
العلم
المندوب.
فكل
ذلك وأمثاله ليس لهما أن يطلباه من الولد، ولا أن يغضبا على الولد لأجله، وليس
لهما عليه حق الطاعة فيه، ولا يجب على الولد طاعتهما فيه، لكنا نقول: لا ينبغي أن
يخالفهما بجلافة وسوء خلق، وإنما يحاول أن يقنعهما بالخير الذي هو فيه، وأنه لا
يمكنه أن يطيعهما لأن طاعة الله فوق طاعتهما.
ومن أدب الوالدين إذا كان يمكنهما الجمع بين
خدمتهما وبين أمور الخير؛ أن لا يضيقوا عليه بوقت معين، بل يقضي لهما حوائجهما في
وقت، ويقضي هذا الخير في وقت آخر، فهذا أزكى لهما وله.
ـ
ومن توفي والداه أو أحدهما وكان عاقا لهما في حياتهما، فإن باب التوبة ما يزال
مفتوحاً له من كبيرته هذه، فإذا استغفر مما بدر منه تجاههما، وعزم بصدق على أنهما
إن كانا حيين أن يبرهما؛ فإن ذلك بر بهما، عسى أن يغفر الله به ما مضى منه، وليكثر
من الدعاء لهما والاستغفار لهما والصدقة عنهما.
[وحدهم المشرفون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]([1]) أخرجه البخاري رقم 2842 ومسلم رقم 2549 عن عبد الله بن عمرو رضي
الله عنهما.
[وحدهم المشرفون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]([2]) أخرجه البخاري.
[وحدهم المشرفون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]([3]) روى البخاري أن امرأة
زوجها أبوها لرجل وهي له كارهة فشكت إلى النبي r فأبطل
نكاحهما وفي رواية: فجعل أمرها إليها.
[وحدهم المشرفون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]([4]) وقد سبق أن بينا حد العلم المفروض من المندوب.