د. راغب السرجاني لكي نستفيد من دراسة السيرة النبوية لا بد من وضع قواعد لدراسة الأحداث لكي تتم الاستفادة الكاملة من السيرة النبوية، وهناك أربع قواعد، فحاول أن تطبق هذه القواعد الأربع على أحداث السيرة النبوية؛ لتتبيّن حجم الاستفادة من هذه الأحداث.
القاعدة الأولى: السيرة النبوية المصدر الثاني في التشريع الإسلامي لا بد أن نفقه المصدر الثاني للتشريع للدين الإسلامي من خلال دراستنا للسيرة النبوية، فإن مصادر التشريع في الإسلام كثيرة وأول هذه المصادر بلا جدال هو القرآن، والمصدر الثاني بلا جدال أيضًا هو السنة المطهرة. والسُّنَّة هي كل قول أو فعل أو تقرير صدر عن رسول . والتقرير هو فعل الصحابي لأمر وافقه عليه النبي بأن استحسنه أو سكت عنه. ولن تستطيع فهم المصدر الثاني من التشريع إلا بعد دراسة مستفيضة للسيرة النبوية.
والقرآن والسنة هما مصدرا التشريع الرئيسية، وهناك مصادر تشريع أخرى منها الإجماع والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة والاستصحاب والعرف، اختلف الفقهاء في ترتيب هذه المصادر لكنهم لم يختلفوا في أن القرآن هو أول هذه المصادر، والسنة هي المصدر الثاني من مصادر التشريع وليس لهما بديل. والسنة في غاية الأهمية في التشريع الإسلامي، وكذلك السيرة في غاية الأهمية لفهم السنة. فالله يقول في كتابه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]. فبدون السيرة وبدون السنة لن تسطيع أن تفهم القرآن الكريم نفسه، فدراستنا لموقف من مواقفه إنما هي دراسة للمصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي. فالسيرة ليست مجرد شيء نقرؤه أو نتسلى بقراءته، بل هذا هو الدين، وهذا مصدر من المصادر التشريع الإسلامي. وهذا ما سنقابل الله به، وهو ما سيسألنا عنه يوم القيامة، فبفهمك للسيرة النبوية وتطبيقها على الوجه الأمثل تستطيع أن تقابل الله بوجه حسن وبعمل صالح. لكن هناك طائفة -وللأسف البعض منهم مسلمون- يشككون في أمر السنة ويشككون في السيرة النبوية، وتزعم أنها تكتفي بالقرآن الكريم، والرسول -عليه الصلاة والسلام- تنبأ بهذه الطائفة في الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه: عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ الْكِنْدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "يُوشِكُ الرَّجُلُ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ، يُحَدَّثُ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِي، فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ، مَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ. أَلاَ وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ". ويرد كتاب الله على هؤلاء الذين يزعمون أنهم يؤمنون بالقرآن فقط، فيقول تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80]، {فَلاَ وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. الصحابة ما كانوا يفرقون أبدًا بين قرآن وسنة. قد يكون الحدث الذي تدرسه أو تقرؤه عن النبي أمرًا تشريعيًّا يجب عليك الأخذ به، وقد يكون ترك هذا الأمر يعرضك لأن يُقال لك: سحقًا سحقًا.
القاعدة الثانية: أن نتعرف على شخصية النبي، ومن هو النبي؟ رسول الله هو خير البشر أجمعين وخاتم المرسلين وسيد الأولين والآخِرين. هذه الشخصية هي شخصية عظيمة، بل هي أعظم شخصية وطأت قدمُها على وجه الأرض منذ خلق الله آدم إلى أن تقوم الساعة. هذه الشخصية جديرة بالدراسة، وهناك أشياء عن النبي سوف نعرفها، والتي تتحدث عن جوانب متعددة ومتنوعة في حياته ، لكن هناك شيء مهم لا بد أن نعرفه عن النبي ونضعه في أذهاننا بوضوح عند كل موقف من مواقفه ، وهذا الأمر هو أن النبي رسول من عند رب العالمين. شاء الله ألا يكلم عباده كِفاحًا (مواجهة) في الدنيا ليكون ذلك فضلاً منه ونعيمًا لأهل الجنة في الآخرة، وشاء كذلك أن يخاطب عباده عن طريق رسول من البشر، ومن كل الخلق اختار الله I محمدًا ليبلغ الناس عنه I، إذن الرسول في الحقيقة ما هو إلا ناقل عن رب العزة I {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى
* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النَّجم: 3، 4]. وعلى هذا القدر من الأهمية يجب أن يؤخذ حديث النبي ، وعلى هذا القدر من العظمة يجب أن تؤخذ سيرة النبي . فالسيرة هي النموذج العملي التطبيقي الذي رسمه الله لخلقه كي يقتدوا برسوله ويقلدوه. السيرة هي الدليل في الصحراء والبوصلة في البحر، فمن أراد الوصول إلى شاطئ النجاة فلتكن السيرة هي دليله. ومن دون السيرة سوف نفقد الوجهة الصحيحة بل نضل، ونظل نتخبط في دياجير الظلمات كحال الكثير من الناس. لو ثبت أن هناك شيئًا فعله النبي فهو ما أراده الله منا، حتى النوافل، فقد يظن البعض أن النوافل من اختراع الرسول ، وأن ما فرضه الله هو ما أوحى الله به إلى النبي من فرائض كصلاة الصبح والظهر، وأن النوافل التي تسبق هذه الفرائض أو تتأخر عنها هي اجتهاد من النبي ، فالله شرع الفريضة كصلاة الظهر فهي أربع ركعات، وكذلك شرع النافلة التي تسبقه أو تتأخر عنه لكن جعل هذا فرضًا وهذه نافلة، وفي النهاية كل شيء مرده إلى الله، وهناك بعض المواقف التي يختار فيها النبي شيئًا وكان من الأولى أن يختار شيئًا آخر، فينزل الوحي ليغيّر المسار ويختار للرسول الاختيار الأولى والأكمل الذي يصلح لهذه الأمة في زمانه وإلى يوم القيامة. فدراسة السيرة من هذا المنظور تعطي للسيرة أهمية كبيرة، فهي ليست دراسة لشخص عظيم أو مصلح كبير فحسب، بل هي دراسة لسيرة رسول رب العالمين، بل خير الرسل وخاتم النبيين .
القاعدة الثالثة: أن نحب النبي ينبغي أن نتعلم كيف نحب الرسول ، فحب رسول الله يجب أن يفوق كل حب، وإن لم يحدث هذا الحب فهناك خلل في الإيمان، يقول في حديثه الشريف: "لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا". ويقول في حديث آخر: "لاَ يُؤْمِنُ الْعَبْدُ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ". ونعرف كلنا ما دار من حوار بين النبي وبين سيدنا عمر بن الخطاب t، قال عمر بن الخطاب: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، إِلاَّ مِنْ نَفْسِي. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ : "لاَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ". فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي. فَقَالَ : "الآنَ يَا عُمَرُ". أي الآن اكتمل الإيمان، الآن اكتمل الصدق مع الله ، لن تكون صادقًا مع الله في اتباعه وفي محبته إلا باتباع النبي {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]. فلا بد من وقفة مع النفس لتعرف هل تحب رسول الله حبًّا حقيقيًّا أم أنك تقدم شيئًا على أوامره؟ هل لك إلى أن تقف وقفة صادقة مع نفسك لتعرف إن كنت تحب الله أم أنك مدَّعٍ لهذا الحب؟
دراسة السيرة النبوية تعين على حب النبي إن حب النبي قضية محورية في إيمان العبد، والتعرف السطحي على شخصية ما لا يتولد عنه عميق حب، إنما التعرف على دقائق الحياة، واكتشاف جوانب العظمة المختلفة في الشخصية التي ندرسها هي التي تولد الحب في قلب الإنسان. ولا أحسب أن إنسانًا يمتلك فطرة سليمة يسمع أو يقرأ عن النبي ولا يحبه، وكلما عرفته أكثر كلما أحببته أكثر، وكلما أحببته أكثر كلما زاد إيمانك، فهي علاقة تفاعلية في غاية الأهمية في حياة المؤمنين. اقرأ عن مواقف النبي ، وعن معاملاته خاصة مع أهله ونسائه وبناته، كيف كان يتعامل مع أصحابه؟ وكيف كانت معاملاته مع أعدائه؟ اقرأ عن جهاده، والغزوات التي قادها ، واقرأ عن صدقه، وعن أمانته، وعن شجاعته، وعن تقواه، وعن عبادته، وعن قضائه، وعن سياسته، اقرأ عن المعاهدات التي عقدها النبي ، اقرأ عن الطائف، أو عن الهجرة، أو عن بدر، أو عن أحد، أو عن فتح مكة، أو عن أي موقعة أو موقف من حياة النبي . وحتمًا ستحب النبي ، بل سيتعمق هذا الحب في قلبك. لقد عدَّ الله محمدًا نعمة ومنَّة منه I على عباده، قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]. قاعدة من القواعد المهمة التي تضعها نصب عينيك وأنت تدرس السيرة النبوية، وهي أن تعمق حب النبي في نفسك، وتزرعه في قلبك، فبدون هذا الحب لن تستطيع النجاة يوم القيامة، يقول الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]. فالمسألة ليست في ارتفاع الإيمان بحبه ، إنما المسألة هي تهديد من الله لمن عظم في قلبه حب المال والبنين وزينة الحياة الدنيا، ونسي حب الله أن يكون من الفاسقين.
القاعدة الرابعة: نتعلم الحكمة من دراسة السيرة النبوية دراسة السيرة النبوية تعلم الحكمة في أرقى صورها، فبدراستك للسيرة النبوية تستطيع أن تتعلم الحكمة من مواقفه ، والحكمة هي أن تضع الشيء في نصابه، وكيف تفضل رأيًا على رأي آخر، وحياة النبي هي الحكمة بعينها، فإذا اختار أمرًا فهذا اختيار حكيم، وإذا فعل فعلاً ما فهذا الفعل هو الحكيم. وللنبي مواقف عديدة تدل على حكمته ، منها:
حكمته الرسول في امتلاك القلوب: لم يكن يمتلك قلوب أصحابه فقط، بل كان يمتلك قلوب أعدائه أيضًا، وهذا من أرقى صور الحكمة، فالقائد ينجح إذا امتلك قلوب أكثر أصدقائه، فما بالك بمن يمتلك قلوب أعدائه؟!
حكمته الرسول في الاعتراف بفقه الواقع: هذه الحكمة في منتهى الأهمية وتسمى هذه الحكمة بالمرحلية، فقد طاف حول الكعبة وبها ثلاثمائة وستون صنمًا وما رفع معولاً ليكسر صنمًا، ثم يأتي وقت لا يقبل فيه النبي أن يوجد صنم واحد بجزيرة العرب، وفي فتح مكة يرسل النبي سيدنا خالد ليهدم أصنام الطائف. فبدراسة السيرة تستطيع أن تفرق بين الموقفين لتتعرف على حكمته من ذلك، وهذا لن يتأتى إلا بعد دراسة السيرة النبوية بعمق وفهم وتحليل لهذه الأحداث. وعاش النبي في مكة ثلاث عشرة سنة وبها الرايات الحُمر المعلقة على خيام الزانيات، ولم يحطم خيمة واحدة من هذه الخيام. ويأتي زمان آخر لم يتوانَ النبي عن إقامة الحد على الغامديّة. وكان في وقتٍ يعاهد اليهود، وفي وقت آخر وعندما يغدرون يحاربهم. فَلِمَ يعاهد النبي في وقت الحرب؟! ولِمَ يحارب في وقت المعاهدة؟! وقد يتخذها البعض ذريعة لمعاهدة اليهود دون دراسة أو تحليل لمواقف النبي ، فقد يعاهد ويصالح في وقت الحرب. ولن نعرف كل هذه الأشياء إلا بدراسة سيرته جيدًا لنعرف كيف نتخذ القرار المناسب في الوقت المناسب. كان النبي يكف يده يومًا عن القتال، ثم يأتي يوم يقاتل من قاتله، ويوم يقاتل كل الكفار. يومًا يمر النبي على آل ياسر وهم يعذبون في الله، وهذا التعذيب قد أفضى بحياة ياسر وسمية فيقول لهم النبي : "صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمْ الْجَنَّةُ". لم يرفع النبي سيفًا ليقاتل أبا جهل الذي كان يعذبهم، ولم يأمر النبي أحدًا من أصحابه الأشداء الفرسان المعروفين لم يأمرهم بقتل أبي جهل وأبي سفيان وأبي لهب، وعندهم ما يبرر ذلك. لكن في يوم آخر يجهّز النبي جيشًا ويحاصر بني قينقاع؛ لأنهم قتلوا رجلاً مسلمًا بعد أن كشفوا عورة امرأة مسلمة. ولقد سيَّرَ النبي جيشًا لقتال الروم، هذه الدولة العظمى لقتلهم رجلين من المسلمين، لكن هذا زمن وزمن مكة شيء آخر. وأول العهد في المدينة غير آخر العهد فيها، وغزوة بدر تختلف اختلافًا تامًّا عن غزوة أحد. لا بد -إذن- من دراسة الظروف والملابسات الخاصة بكل موقف وأنت تدرس مواقف السيرة النبوية، وبذلك تستطيع أن تفهم حكمته في فقه الواقع.
التدرج: ومن حكمة رسول الله اتباع سياسة التدرج في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي التربية. كانت الخمر من القضايا الشائكة عند المسلمين، ولم يُحمل الناس على تركها مرة واحدة بل كان التدرج هو السمة الأساسية في تحريمها. وكذلك حرم الربا، وكذلك كان أمر الناس بالجهاد، فكان التدرج هو العامل الرئيسي في كل هذا الشيء.
الوسطية: من نعم الله على هذه الأمة أن جعلها أمة وسطًا، كما أخبر في كتابه فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]. فلا إفراط ولا تفريط في أي أمرٍ من أمور الدين، وكذلك كان منهج النبي . وتعددت التعريفات للإفراط والتفريط وكل له تعريف، والمقياس في كل هذا هو سيرة النبي . ومن ذلك مثلاً أمر الزواج، فالنبي أمر بالزواج وحض عليه وتزوج، ولكن الزواج لا يلهي عن الدعوة، أو عن الجهاد في سبيل الله، أو عن النفقة في سبيل الله، فهذا التوازن نتعلمه من سيرة النبي . والتوازن في العمل نتعلمه من سيرة النبي ، فأي عمل مشروع من أعمال الدنيا يأمر به النبي ، ويبارك اليد الخشنة، ولكن بدون إفراط أو تفريط حتى لا يضيع حق الله تعالى وحق العباد وحق الأهل وحق الأمة. ونتعلم من سيرته التوازن في الطعام، فقد ذكرنا آنفًا أنه يمر الهلال ثم الهلال ولا يوقد في بيت النبي نار. ولكن إذا حضر الطعام أكل من أطيبه. وكان يصلي وينام ويصوم ويفطر. وما حديث الثلاثة نفر ببعيد، فيقول أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ t: جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ ، قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا، فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا. وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلا أُفْطِرُ. وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ، فَلا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: "أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي". فالوسطية كمنهج عملي في حياة الأمة تراها واضحة تمامًا في سيرة النبي .
القواعد الأربع وفي كل موقف من مواقف سيرة النبي علينا أن نضع نُصب أعيننا هذه القواعد الأربع التي فصلناها سابقًا. وهي: 1- أن نفهم أن هذا الموقف قد يكون من المواقف التشريعية، والعلماء لهم دور كبير في استنباط الأحكام من السيرة النبوية. 2- ندرك أنه رسول ولا يخطو خطوة إلا بوحي من الله أو تعديل من الوحي. 3- أن نتعلم كيف نحب النبي من كل موقف من مواقف حياته . 4- أن نتعلم الحكمة في اختياره للآراء، وفي اختياره للأفعال في أثناء السيرة النبوية من أوَّلها إلى آخرها.
د. راغب السرجاني