النُّطقالحسن هو الدِّعامة الأولى للإلقاء الجيَّد، وإذا اعترى النُّطق ما يفسده،ضاع الإلقاء، فضاعت معه الخطبة وأثَرُها، وفَقَدَ الخطيب ما يَسْمُو إليهمن وراء البَيَانِ، ولا شيء يذهب بالمعنى الجيِّد أكثر من النطق الرديء،وكثيرًا ما يفهم المعنى على غير وجهه؛ لأن النُّطْقَ قَلَبَه، ولم يصورهتصويرًا صادقًا.
والنطق الجيد يحتاج إلى عناصر أربعة لا بُدَّ من توافرها، فإذا فُقِد أحَدُها ذهب أحد أركانه، فاخْتَلَّ بنيانه، وها هي ذي:
1 - تجويد النطق:
بأن يُخرج الحروف من مَخارجها الصحيحة،فلا ينطق الثاءَ سينًا، ولا بالذال زايًا، ولا بالجيم كما ينطق العامة،وهكذا كلُّ مخارج الحروف، فيجب أن يُعْنَى الخطيب بأن يكون الحرف خارجًامن ينبوعه، صادرًا من مَخرجه الذي عُرف عن العربي النُّطقُ به منه، وإنَّالعناية بنطق الحروف نطقًا صحيحًا، وإخراجها من مخارجها ليس معناها أنْيَتَشادق الإنسان ذلك التشادق الذي يقع فيه بعض المتكلمين[1]أو الخطباء فكَسَوُا النُّطق تكلفًا يثير سُخرية السامعين، أو يثقل القولعليهم، بل معناه أن يَنطق بالحرف من مَخرجه من غير تكلُّف، ولا تشادق، ولاتوَعُّر، بل في يُسر، ورفق وسهولة؛ لأن ذلك التشادق يوقع أولئك المتكلمينفي نقيض ما يرغبون، فينطقون بالحروف من غير مَخارجها الصحيحة، كبعضالخطباء الذين يدفعهم غُلُوُّهم إلى النطق بالجيم بما يقُارب الشين؛فرارًا من نطق العامة، فيدفعهم فرارُهم هذا من عَيْبِ العامِّيَّة إلىعَيْب آخر، لا يَقِل عن الأول خروجًا عن جادَّة الفصحى، وقد قال بعضالأدباء: إن التشادق من غير أهل البادية عَيبٌ؛ لأنَّ أهل البادية فيالزَّمن الأول كان نطقهم هو الصورة الصحيحة للنطق العربي القويم
2 - مُجانبة اللحن وتحري عدم الوقوع فيه: يجب أن يُعنَى الخطيب بتصحيح الكلام الذيينطِق به، وملاحظته في مفرداته وعباراته، فيلاحظ بِنْيَة الكلمات ملاحظةًتامة، فلا ينطق مثلاً بكلمة "سُوقَة" بفتحتين كبعض الخطباء، فيذهب ذلكبروعة القول وبَهائه، ولا ينطق بغير ما توجبه قواعد النحو في آخر الكلمات؛فإنَّ ذلك يفسد المعنى، وقد يقْلِبه، وليعتبر الخطيب بما روى من أن خارجًامن الخوارج قال في قصيدةٍ هذا البيت:
وَمِنَّا يَزِيدٌ وَالْبَطِينُ وَقَعْنَبٌ وَمِنَّا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ شَبِيبُ |
برفع أمير المؤمنين، فَلَمَّا وصل البيتإلى علم عبدالملك بن مروان، طلب قائله وسأله: أنت القائل: ومِنَّا أميرُالمؤمنين شبيب؟ فقال: لم أقل هكذا، ولكني قلت: ومنا أميرَ المؤمنين شبيبُ،وفتح أمير – أي: منا شبيب يا أمير المؤمنين - فأعجب عبدالملكبفطنته، وأخْلَى سبيله، فانظر: كيف كان اختلاف الحركة في آخر الكلمةقالِبًا للمعنى، مُغيِّرًا للمقصد، فالخطيب الذي يقع فيه قد يفسدالمعْنَى، بل قد ينقلب المدلول اللفظي لكلامه إلى نقيض المطلوب وعكسالمراد، والنُّطْق والخطأ في آخر الكلمات فوق أنَّه قد يُفسد المعنى،يَذْهب برونق الخطبة، وحسن وقْعِها، وجمال تأثيرها، ولا يَظُنَّنَّ الخطيبأن جَوْدة المعنى وإحكامه قد يذهبان ببعض الأخطاء، فإن الهَنَات الصغيرةإذا كثُرت أحدثت تأثيرًا سلبيًّا للخُطبة، وأفسدت تأثير المعنى المحكمة،وإن جمهرة النظارة الآن في مصر ممن لهم إلمام بقواعد النحو، ولهم قُدرةعلى ملاحظة الأخطاء، وإن لم تكن لبعضهم قدرة على مُجانبتها في خطبهم، بلفي كتابتهم أحيانًا، فإن المستمع يلاحظ ما لا يلاحظه الخطيب، ونَظَرَاتهإلى المتكلم وكلامِه نظراتٌ فاحصة كاشفة، وإذا أدركوا كثيرًا من الأخطاءضاع أثرُ الخطبة في نفوسهم.
3 - تصوير النطق للمعاني تصويرًا صادقًا:
بأن يُعطي كلَّ كلمة وكل عبارة حقَّها،ويظهرها بشكل تتميز به عن سواها، فالجملة المؤكَّدَة ينطقها بشكل يَدُلُّعلى التوكيد في النغم، والجمل الاستفهاميَّة ينطق بها بشكل يتبيَّن منهالاستفهام، والمراد منه في طريق النُّطق، كما دَلَّ عليه بالأداة الدالةعلى الاستفهام، وسنتكلم عن هذا بشكل وافٍ عند الكلام عن الصوت.
4 - التمهل في الإلقاء:
وهو ألزم الأمور للخطيب، وليس بصحيح مايزعمُه بعض الناس من أن الخطيب اللبق هو من يتدفَّق بيانه تدفُّقًا،وتَتَحَدَّرُ عباراته في سرعة، من غير تَمَهُّل؛ فإن ذلك - فيما أرى -عيبٌ يَجِبُ التخلِّي عنه والاحتراز منه:
أ - إذ النطق السريع المتعجل - حيث تجبالأناة - ينتج منه تشويه المخارج، وخلط الحروف بعضها ببعض؛ لأن عَضَلاتالفم واللسان لا تأخذ الوقت الكافي للانتقال من لفظ إلى لفظ.
ب - والإسراع المُفْرِط يجعل الخطيب يُهمِل الوقوف عند المقاطع الحسنة، والمقاطع لها حسن الأثر كما علمت فيما مضى.
ج - والخطيب السريع في نطقه لا يعطيالسامعَ الفرصة الكافية لفهم ما يسمع، وتَذَوُّق ما فيه من صقل اللفظوجودة المعنى، وحسن الخيال، فإذا قرعت أذنَه عبارةٌ قبل أن يذَوقَ ما فيالأول من جمال، يعْرُوه التعب، ويسكن قلبه السَّأم، وينصرف عن الإصغاء.
د - والتمهل فوق ذلك يجعل الصوت يسري إلىالسامعين جميعًا بأيسر مجهود مُتناسب مع المكان والعدد، بينما الإسراعيجعل الكلمات تَحتاجُ إلى مَجهود صوتِي أكبر؛ ليصل الكلام إلى الآذان.
وقد كان النقاد الأقدمون يَعدُّون بحقٍّ من أمارات رباطة جأش الخطيب -التَّمهل في النطق؛ فقد قال أبو هلال العسكري في الصناعتين: "وعلامة سكونالخطيب ورباطة جأشه هدوؤه في كلامه، وتمهلُّه في منطقه، وقال ثمامة: كانجعفر بن يحيى أنطق؛ قد جمع الهدوء والتَّمهُّل، والجزالة والحلاوة، ولوكان في الأرض ناطق يستغني عن الإشارة لكانه"؛ وقبل أن نترك الكلام في هذاالمقام نشير إلى نقطتين:
إحداهما:أنَّ الكلام يَجب أن يسودَه التمهل في الجملة لما بيَّنَّا، ولكن يصحُّ أنيتفاوت في الجمل بعضها عن بعض، فالجمل الدَّالة على الفرح والسرور يستحسنأن ينطق بها الخطيب بسرعة نسبيَّة، وكذلك الجمل الدالة على الغَضَب؛ ليكونالنطق مصورًا للمعنى الروحي لهاتين الحالتين تمام التصوير.
ثانيتهما:ألاَّ يظن ظانٌّ أنَّ التَّمهُّل معناه أنْ يكون النطق هادئًا هدوءًاتامًّا؛ فتعدم الخطبة الحياة والقوَّة، بل يَجب أن يكون في نغمات الصوتورنَّاته، وملامح الخطيب ونظراته، والتغيير النسبي في التمهُّل والسرعةيعطي الخطبة الحرارة والقوَّة والحياة.
[1] كأولئك الذين يعلكون ألسنتهم بالقاف مفخمين النطق بها فيبدو التكلف واضحًا.