إذاتتبَّعْتَ تاريخ الإسلام بعد القرون المشهود لها بالخير؛ تَجِدُ الخُطبالدينية في كل دولة قد تَراجَعَتْ إلى الوراء، حتَّى صارتْ إلى ما هيعليْهِ الآنَ من التأخُّر والانْحِطاط، فإنَّها لَمَّا كانت بيد الملوك؛كان أكبر همِّهم حثُّ الناس على السمع والطاعة لهم، والاستنهاض إلىمُحاربة الأعداء بحقٍّ أو بغير حق، وقلَّ مَنْ ينظُر منهم في أحوال الناسوأمراضهم النفسية، فيعظهم من ناحيتها، ولَمَّا تَركها المُلوكُ والأمراءُلترفُّعهم أو لغيره، ووكلوا أمرها إلى أئِمَّة المساجد، ساروا فيها علىأهواء الملوك والأمراء - إلا من رحِمَ الله - حتَّى سقطت في تلكالمَهْواة، ووَقَعَتْ في أَيْدِي مَن لا يُجِيدها، ما عدا القليل منالخُطباء الذين لم يَبْلُغوا بِها درجتَها اللاَّئِقَة بِها، ولم يكونواكافين لقِلَّتِهم في دَعْوَةِ النَّاس إلى الله، وإرشادهم إلى الحق.
وأصبحت الخطب اليوم عبارة عن كلماتٍ تُحْفَظُ وتُلْقَى، ومعظَمُها يَدورُحولَ الدنيا وذمِّها والتَّزْهِيدِ فيها، والأمر بِالمَعروف والنَّهْيِعَنِ المُنْكَر، بِعباراتٍ مُجملةٍ لا تُغْنِي من أمراض النفوس شيئًا، ولاتَصِلُ إلى أعماق القلوب، وبعضها يَخْلِطُ الأوامِرَ بالنَّواهِي، ويجمعبيْنَ أمورٍ كثيرةٍ لا يستوفي الكلام على واحدٍ مِنْها، فيحذر مِنْ تَرْكِالصلاة، وشُرْبِ الخُمور، والزنا، والربا، وما إلى ذلك من المنْكَرات، كلذلك في خطبة واحدة، وما يسمعه الناس من الخطيب اليوم يسمعونه غدًا، ومايلقى في هذا العام يدور في العام القابل، مع أنَّ الواجِبَ - كما عَرَفْتَ- مُراعاة الخطيب لمُقْتَضَى الحال، وإصلاح السامعين على قدر ما فيهم منالشَّرِّ والفساد، لا فَرْقَ بيْنَ مُتَعَلِّم وجاهل، وكبير وصغير، وأميرومأمور، شأن الهداية بالقرآن وشأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وأصحابه والتابعين - رضي الله عنهم أجمعين.
وحيث كان الغرض من الخطابة الدينية دعوة الناس إلى الهدى ودين الحق،وإحياء الفضيلة، وإماتة الرذيلة، وإصلاح فساد قلوبهم، وتطهيرهم من الأمراضالنفسية والاجتماعية - تعلم أن الخطب المجملة لا تفيد الجمهور شيئًا؛لأنَّها لم تَلْمَس مواضعَ الداء، ولم تَهْتَدِ إلى الدَّواء.
فمَثَلُ مَن يقول: إنَّ المعاصِيَ تُزِيلُ النِّعم، وإنَّ التَّعلُّقبالدُّنيا مُبْعِدٌ من الله تعالى، وقدِ استَحَقَّ النَّاسُ العذابَلِظُهورِ الفسادِ في البَرِّ والبَحْرِ، ولوِ اسْتَقَمْنا ما انتقمنا، ماللمساجد خرِبَتْ، وبيوت اللَّهْوِ والفسوق عمرت، ما للقلوب قست، ما للعيونلا تبكي، ما للقلوب لا تتألم، قد انتهكتم الحُرُمات، وتعدَّيْتُمالحُدُودَ، وأغضبْتُمُ الجبَّار، فإنَّا للَّه وإنَّا إليْهِ راجعونَ، ولاحول ولا قوة إلا بالله، وما إلى ذلك من مُجْمَلات القول - مَثَلُ الطبيبالذي يَخْطُب الجُمهورَ فِي قواعد الصِّحَّة العامَّة، وفيهم المسلول،والمحموم، والمجذوم، والمبطون، وذو الرمد الصديديِّ، والبلهارسيا، والمصاببالسيلان أو الزهري، وما شاكل ذلك من الأمراض المعدية، التي تحتاج إلىدواء خاص، وعلاج خاص، وحمية خاصة، ويقول: نظِّفوا غُرَفَ النَّوْمِ،وقلِّلوا من الغذاء، واحْتَرِسُوا من الرُّطوبة، ولا تأكلوا المغلظات، ولاتبصقوا في أماكن الاجتماع، وما شاكل ذلك أيضًا من الكليَّات العامة، التيتصلح للصحيح كما تصلح للمريض، فهم لا يلتفتون إليها؛ لأنَّها أصبحت لديهمفي حكم المعلوم بالضرورة، لا تؤثر فيهم أدنى تأثير؛ لأنها لم تلمس موضعالألم فيحس المريض، ولم تصف دواء فيعلق عليه الأمل، وينشط في العمل.
لذلك يجب على الخطيب الديني أن يتكلم على الموضوع الخاص، ويحلله تحليلاً دينيًّا أخلاقيًّا اجتماعيًّا،
فيتكلم على الإشراك بالله مثلاً؛مبيِّنًا أنه نتيجة البله والسقوط من مرتبة الإنسان الحق مهما كان صاحبهذكيًّا مُخترعًا في الدنيا، وماهرًا فيها؛ لأن مَنْ لم يعقل هذه العوالمالكبيرة المنظمة والآثار البديعة المحكمة، ولم يهتد بالسنن الكونية إلىوجوب وحدة الصانع الحكيم يكون كالأنعام؛ بل هو أضل، وذلك سِرُّ كون اللهتعالى لا يَغْفِرُ أن يُشْرَك به؛ لأنَّ المشْرِكَ قد عطَّل مواهبه، وكلَّحواسِّه منَ النَّظَرَ في الكائنات، وانكبَّ في الشهوات على وجهه: {
وَلَقَدْذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌلَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْآذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}
[1]؛ {
أَرَأَيْتَمَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً*أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْهُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}
[2]؛وإنما كانوا أضل سبيلاً من الأنعام؛ لأنَّها تنقاد لمَنْ يتعهَّدها وتحبه،وتميِّز مَنْ يحسن إليها ممَّن يسيء إليها، وتطلب ما ينفعها وتنفر ممايضرها، وهؤلاء لا ينقادون لربِّهم، ولا يعرفون إحسانه من إساءة الشيطان،ولا يطلبون رضاه وهو أعظم المنافع، ولا يتقون غضبه وهو أشد المضارِّ، ولأنالأنعام إن لم تعتقد حقًّا ولم تكسب خيرًا - لم تعتقد باطلاً ولمتكسب شرًّا، بخلاف هؤلاء، ولأنها غير متمكنة من طلب الكمال فلا تقصير منهاولا ذنب لها، وهؤلاء مقصِّرون مستحقُّون أعظم العقاب على تقصيرهم؛ ولأنجهالتها لا تضر بأحد، وجهالة هؤلاء تُفضِي إلى إثارة الفتن، وصدِّ الناسعن الحق، وقال تعالى في وصف الكفار: {
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ}
[3]، وكانوا شرَّ الدواب لإبطالهم ما مُيِّزوا به وفُضِّلوا لأجله من نعمة العقل والتمييز.
ثم إذا أراد أن يتكلَّم على الشِّرْكِ الخَفِيِّ الواقع في الناس؛سواء جاء من طريق الرياء أوِ الاعتماد على الأسباب - يقول: إنَّمِثْلَ هذا قد تغلَّب عليه الشَّيْطَانُ بِخَيْلِه ورجله، فأضاع عليهالوقت بضياع عمله؛ لأنَّ مَنْ يَعمل لغَيْرِه لا بد له من جزاءٍ إنْ كانعاقلاً؛ بل مَنْ يَعْمَلُ لنفسه لا بدَّ له من ثَمَرةٍ يتوخَّاها، والناسوالأسباب المادِّيَّة لا تأثيرَ لَها، ولا تُجازى بثواب، وقدِ انْقَطَعَمَدَدُ اللَّه عنه، فإنه لم يعمل له، وهذا هو الخسران المبين.. ثم يذكِّرآيات وأحاديث التحذير من الشرك بنوعَيْه، المنذرة بوخامة العاقبة وسوءالمغبَّة.
ويتكلَّم على قتل النفس ظلمًا؛مبيِّنًا ما فيه من الأضرار المادية والاجتماعية؛ كتولُّد الأحقادوالضغائن، وبقائها بين الأُسَر، وتربُّص الدوائر من كلٍّ منها بالأخرى،وانتقال ذلك الشر من الأصول إلى الفروع، والإخلال بالأمن والراحة. هذا إلىما في هذه من الجناية الشنيعة الأثيمة؛ من تعريض النفس للإعدام، والأموالللإتلاف، والأولاد للضياع، فضلاً عن غضب الله ومقته، ذاكرًا الآياتوالأحاديث الواردة في التحذير من جناية القتل، ويقبِّح أيضًا جريمةالانتحار، مبيِّنًا أنه نتيجة السَّفَه، وقلَّة الإيمان، وعدم الثقة باللهتعالى والرضاء عنه في قضائه وقدره، وأن المنتحر قد باء بإثمه، ولقي اللهوهو عليه غضبان، تاركًا وراءه الخزي والعار وقبيح الأحدوثة، ثم يأتي بمايناسب المقام من الأدلة الشرعية؛ محذِّرًا من هذه البدعة السيئة غايةالتحذير.
ومَنْ يخطب في الزنا؛ يذكر أضراره البدنيةوالأخلاقية والاجتماعية؛ من اختلاط الأنساب، وتفريق الوحدة، وأن زوجالزانية يضيع ماله على أولاد الأجانب، وأن الزانية والزاني قد هتكا حرمةالزوج، واعتديا على حقِّه الشرعي، وهتكا الأسرة، وسجَّلا عليها عارًا لايُمحى، وخزيًا لا يزول، وتشبُّهًا بالحيوان الأعجم الذي ينزو ذَكَرُهُ علىأنثاه بلا قيدٍ ولا شرط، وأن مَنِ اجترأ على الله بارتكاب هذه الجريمةالشنعاء يجترئ في سبيل شهوته على ضرر العباد، والسعي في الأرض بالفساد،فضلاً عمَّا في الزنا من التعرُّض لغضب الله ومقته، ثم يأتي بآيات وأحاديثالزنا وفظاعة عقوبته؛ حيث كان فاحشةً وساء سبيلاً، وينفِّر الناس منالزاني والزانية بأنهما وباءٌ على المجتمع؛ لأن مَنِ استَحْكَمَ فيه مرضٌيوَدُّ أن يكونَ النَّاسُ مِثْلَه، والتنفير بابٌ عامٌّ يَنْبَغِي دخولُهفي كلِّ المُهْلِكات. وقريب من الزنا السُّفور، وتبَرُّج النساء فيالأسواق والطرقات.
ومَنْ يخطب في التحذير من الربا؛ يذكر مافيه من الأضرار المالية والاقتصادية، وأنه ما انتشر في أُمَّة إلا ذلَّتبعد عزِّها، وافْتَقَرَتْ بعد غناها، وفقدتْ قوَّتَها واستقلالَها، ووقعتْفي قَبْضَة الاستِعْباد، هذا إلى ما في الربا من المَحْق، وذهاب البَرَكة،ومُحارَبَة اللَّه، والتَّعرُّض لغَضَبِه وعُقوبَتِه في العاجِل والآجِل،ويُستدلُّ على هذا كله بالأدلة النقليَّة والمشاهَدات الحسيَّة.
وإذا خطب في التحذير من تناوُل المُسْكِرات وتَعاطِي المُخَدرات- ذكر ما فيها من الأضرار الماليَّة، والصِّحِّيَّة، والخُلُقيَّة،والاجتماعيَّة، وأرْدَفَ ذلك بما جاء فيها من الوعيد الشَّديد الوارد فيالكتاب والسنَّة.
وبِالجُملة؛ إذا تكلَّم في المنكراتيحلِّلها على هذا النحو؛ بادئًا بأشدها خطرًا، وأكثرها وقوعًا في الأُمَّةالتي يخطب فيها، ويعالِجُهم بالطرق المتنوعة الحكيمة؛ كما بيَّنَّاه فيالفصل العاشر من كتابنا "
هداية المرشدين".
وإذا خَطَبَ في باب الأوامر والفضائل؛عمد إلى شُعَب الإيمان شُعْبَةً شُعْبَةً، وتكلَّم عن كلِّ شُعْبَةٍ منهاعلى حدةٍ؛ كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والصدق، والوفاء، والأمانة،والحياء، مبينًا حكمة مشروعيَّتها، وآثارها التي تعود على صاحبها وعلىالمجتمع الإنساني، وما في تركها من الاتِّصاف بأضدادها من الخسارة عليه،وعلى الحياة الاجتماعية، مشفوعًا ذلك بالأدِلَّة النقليَّة والعقليَّةوالحسِّيَّة، مراعيًا أيضًا أكبَرَها خطرًا، وأكثرَها شُيوعًا في الناس.
ويَخطب في المواسم بِما يُناسِبُ الحال؛فيتكلم في رمضان - مثلاً - في وجوب الصوم؛ حتَّى على الأمم السابقة،مبيِّنًا سرَّ مشروعيَّته من ضبط النَّفْس وإضعاف شهوتها، وكونه وسيلةًإلى تربية النفس وتهذيبها، وتعويدها على قوة الإرادة، فإنها إذا انقادتللامتناع عمَّا لا غنى له عنه من الغذاء؛ فأوْلى أن تنقاد للامتناع عمَّالا حاجة لها فيه من الحرام، فكان سببًا في اتِّقاء المحارم وقوة العزيمة،وأنه يبعث في الإنسان فضيلة الرحمة بالضعفاء، والعطف على البائسين، وأنهينقي الجسم من الفضلات الرديئة والرطوبات المعوية، وما إلى ذلك من المزاياالصحية والخُلُقية والاجتماعية، كما سبق تفصيله في الفصل الثالث في أصولالخطابة في (
الأدلة الذاتية)، ثم يبيِّن ما للصائم عند الله من عظيم المثوبة على هذا الجهاد العظيم، ويذكر ما ورد فيه من أحاديث الترغيب.
ويتكلَّم في العيدين عن الأعمال المطلوبة؛من صدقة وأُضْحِيَة، وتهليل وتكبير، وصِلَة رحم وعطف على بائس وأرملةوإكرام يتيم، مرغِّبًا في العفو عن الهفوات، والصفح عن الزلات، وتركالخصومات والإصلاح بين الناس، ويحذِّر الناس من العوائد المحرمة والبدعالقبيحة التي تقع في العيدين؛ كزيارة المقابر والمبيت بها، وتجديدالأحزان، ويبيِّن أيضًا أن رضا الله في مثل هذه الأيام أكبر، وغضبه أعظم،ويضرب لهم الأمثال بأنه لكل مَلِكٍ حالات غير اعتياديَّة عند رعيَّته،يعطي فيها الآلاف، ويطلق المساجين، ويعفو عن التائبين؛ كذلك أيام اللهتعالى بالنسبة لملك الملوك ورب الأرباب، وإن غضب المَلِك في أوقات الصفاءقد يخرجه عن مألوف الغضب في بقية الأيام. وينبغي أن يتكلم على صدقة الفطرفي الجمعة التي قبل العيد؛ ليُحْسِنَ الناس أداءها في الوقت الأفضل، علىالوجه المطلوب.
ويتكلم في شهر ربيع الأول على سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -بذكر نَسَبَه وحَسَبَه، ومزايا قومه وعشيرته، وأخبار مولده وتربيته، وصفةمعيشته في نفسه، وزواجه وسيرته مع أهله - تمهيدًا لبيان المقصدالأعظم؛ وهو نبأ بعثته التي كانت رحمةً للعالمين، مبيِّنًا ما كان عليه منالأخلاق الكريمة والآداب العالية، وما تَمَّ على يديه من الإصلاح وجلائلالأعمال، وما قاساه من الأهوال والمتاعب الشديدة في سبيل الدعوة إلى اللهتعالى، مستمدًّا ذلك كلَّه من الكتاب المبين وصحيح السنَّة، وما تمسالحاجة إليه مما أثبته ثقاة المؤرِّخين، مجتنبًا كل ما لم تثبت صحته ممايتعلق بسيرته الشريفة، مبيِّنًا أن الفائدة المقصودة من ذلك هي تذكيرالناس بخلاصة تاريخ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليتذكَّر المؤمنونمنَّة الله تعالى عليهم ببعثته، وتتغذَّى أرواحهم بزيادة الإيمان به وكمالمحبَّته، ويزداد تعلُّقهم بهذا الرسول العظيم - صلى الله عليه وسلم -ويحرصوا على اتِّباعه والاقتداء به، والتمسُّك بدينه، وإحياء سنَّته،والتحلِّي بآدابه، ولا يكفي ذكر نسبه الشريف مجرَّدًا عن ذكر مآثر آبائه،ولا ذكر أوصافه الجسمية؛ كما يفعله بعض الخطباء اليوم، فذلك لا يفيبالغاية المقصودة من ذكر حياته الشريفة - صلوات الله وسلامه عليه.
وإذا تكلَّم على وفاته؛ فلا يذكرهامُجَرَّدةً عن بيان ما فيها من العبر؛ وإنما يتكلم عمَّا لاقاه من الشدائدفي مرض الموت وسكراته مع الصبر والرضا، وأن رسول الله - صلى الله عليهوسلم - إذا كان قد لقي مثل تلك الأهوال وهو المغفور له والمعصوم؛ فكيف بناونحن المذنبون، ولا ندري ما يُفعَل بنا؟!
ثم ينبِّه العقول إلى الاحتفاظ بسيرته، وتعظيمه، ومحبته، والعمل على إحياءسنته، وإطعام الطعام شكرًا لله على نعمة وجوده العظمى، ويحثُّ الناس علىإكثار الصلاة والسلام عليه؛ لتكون قلوبهم دائمًا معمورةً بمحبَّته - صلواتالله وسلامه عليه - ويبيِّن لهم أن المحبة دائمًا تقتضي الجري على ما يهوىالمحبوب، وأن العاصي كاذبٌ في دعواه حبَّ الله ورسوله - صلى الله عليهوسلم - ويبيِّن أيضًا حقَّه على أمَّته، وأن هذا الخير العظيم، وتلكالسعادة التي فيها العالم - كانت كلُّها على يديه - صلى الله عليهوسلم - ولذلك شُرِعَتْ الصلاة والسلام عليه؛ قيامًا له ببعض حقِّه علىالناس.
وهكذا يتكلم في كل وقت بما يناسبه مراعيًا حال السامعين، وأمراضهم، واستعدادهم.ويتكلَّم على القرآن الكريم؛ مبيِّنًا شيئًامن فضائله، وما يجب على التالي والسامع له، وأن القارئ إنما يتكلَّم بكلامالله كنائبٍ عنه في إسماع الناس ما شُرِعَ لهم فيه، وأنَّ مَنْ أعرض عنالقارئ فقد أعرض عن الله، وأن من أَخَلَّ بالأدب عند سماعه فقد أَخَلَّبالأدب بين يَدَيْ ملك الملوك، ويضرب لذلك الأمثال، ويذكر للناس إجمالاًما في القرآن من المقاصد وأنواع الهداية، التي تكفل لمَنْ سلكها وتحلَّىبها سعادة الدين والدنيا، وأن تلاوته عبادة، وسماعه عبادة، عندها تتنزَّلالرحمات، وأنَّ الخُضُوعَ عند سَماعه والتأثُّر به خُضوعٌ لله ولجلاله،وآية الفلاح والهداية.
وعلى الجملة؛ يحضُّ النَّاس على احترام مجلسالقرآن، ويحذِّرهم من انتهاك حرمته بالتَّغنِّي به أو الإعراض عنه، ثميلفت الناس إلى تعلُّمه وتدبُّره؛ لتتَّسع عقولهم وتستنير بصائرهم، ويحثُّالمسلمين على المحافظة عليه بحفظ طائفة كثيرة من أبنائهم له في كل عصر؛محافظةً على ينبوع المِلَّة وأساس السَّعادة في العاجِل والآجِل.
وقد علمتَ أن منهلك الصافي في هذا كله كتاب الله تعالى، وكتب السنَّةالصحيحة، لا سيَّما كتاب الإيمان والعلم والمغازى وفضائل القرآن، وشمائله- صلى الله عليه وسلم - وكتب حكمة التَّشريع، وإياك أن تذكر شيئًا منالآثار التي لم تثبت صحَّتها في مثل هذه المقامات، وإلا كنتَ هدفًاللطَّعن عليك في معلوماتك، والشكِّ في طريقك، وما أغناكَ عن هذا!!
وصفوة القول: إنَّ أفْضَلَ الخطب الدينيَّةما كان مُطابِقًا لِمُقْتَضَى الحال، ملائمًا لما تدعو إليه حاجةالسامعين، وإنَّ مَنْ أَحَبَّ أن يكون نصحُه نافعًا وإرشاده مفيدًا؛فلينظر إلى المنكرات الفاشية في الناس، والأمراض النفسيَّة المُنْتَشِرةفيهم، والحوادث الحاضرة الحديثة العهد بينهم، وليجعل شيئًا منها علىحِدَّة موضوع خطابَتِه، ثُمَّ يُحْصِي ما في ذلك من الأضرار الماليةوالبدنية والخُلُقية والاجتماعية، ويعدُّها واحدًا واحدًا في ذهنه،ويدوِّنها بقلمه، ثم يستحضِر ما جاء في الموضوع من الآيات الكريمةوالأحاديث الصحيحة وآثار السلف وأقوال الحكماء، مجيدًا فَهْم ذلك، شارحًامنه ما تمسُّ الحاجة إلى شرحه، ثم يشرع في تدوين الخطبة إذا أراد ذلكمضمِّنًا لها أثار هذا المنكر، وما جاء فيه عن الشريعة الغرَّاء، مراعيًافي أسلوب الخطبة ما يلائم عقول السامعين.
هذا إذا اقتضى الحال الترهيب من سيئة، أو التنفير من نقيصة، وإذا دعتالحاجة إلى الترغيب في نوعٍ من أنواع البرِّ، أو التحلي بفضيلة- فليجعل ما مَسَّت الحاجة إليه من أنواع الخير أو الفضائل موضوعَالخطبة على حدةٍ، ثم يُفَكِّرُ في مزاياه ومنافعه العامَّة ويُحْصِيهاعددًا، ثم يستحضر ما يلائم الموضوع من الكتاب والسنَّة، وما إلى ذلك منكلِّ ما يؤيِّده ويؤثر في نفوس السامعين من الدلائل الشرعية والعقليةوالحسية، ثم إذا فرغ من تدوين الخطبة؛ فإن شاء استظهرها عن قلبه وألقاها،وإن شاء تكلَّم على مضمونها بما لا يخرج عنه إلا بمقدار ما يَعِنُّ لهحالة الأداء ممَّا يَزِيدُ الموضوع بيانًا وجمالاً، والأحْسَنُبِالمُرْشِد والخطيب الاجتماعي ألا يتقيَّد بعبارة خاصة؛ بل الأَلْيَق بهبعد استحضار المعاني أن يؤدِّيَها بما يستطيع من العبارات والأساليب، وإذااختار عدم تدوين الموضوع، واكتفى باستحضاره في ذهنه بعد التفكير فيه، ولمتَخُنْهُ ذاكرتَه عند الأداء - فذلك غاية الحسن ومنتهى الكمال.
وقَدْ جَرَت العادة بالتزام صورةٍ واحدة في الخطبة الثانية للجمعة؛ سَمَّوْها (
خطبة النعت)،وتلك عادة غَيْرُ معروفةٍ عن السلف الصالح؛ فهي مُحْدَثَة وغير لائقة بهذاالموقف العظيم الأسبوعي؛ بل اللائق به العناية بالخُطْبَة الثانيةكالأولى، وباب الإرشاد واسعٌ وميدانه فسيح، وللناس حاجة إلى الإصلاح منوجوهٍ كثيرة، وفي الشرع الشريف أغذيةٌ للعامَّة وأدويةٌ للخاصَّة، فلايصعب على الخطيب أن يستحضر للخطبة الثانية كل أسبوع من الآيات والأحاديثأو الآثار أو الحكم البليغة ما يناسب موضوع الخطبة؛ كما ترى هذا جليًّا فينماذج الخطب المنبرية في كتابنا "
هداية المرشدين".
هذا حال الخُطَب اليوم، وما يجب أن تكون عليه، وهذاداؤها ودواؤها كما هدتنا إليه التجربة وكثرة المران والممارسة، والحمد للهالذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وصلى الله على سيدنامحمد وآله وصحبه وسلم.