الإنفاق بين السر والعلانية
د. باسم عامر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد،،،
فقد شَرَعَ اللهُ سبحانه وتعالى في القرآنِ الكريمِ إنفاقَ السِّر إلى جانبِ إنفاق العَلانية، وَجَعَل كليهما سلوكاً عامَّاً للمؤمنين، ومَدَحَ كلا النوعين في سياقٍ واحدٍ، فقال سبحانه وتعالى : { إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } (1) ، " هذه الآية الكريمة تُفيد أنَّ الصدقات في كلِّ أحوالها خيرٌ محضٌ ما دام المنفِقُ قد خَلُص من الرياء وجانَبَ المنَّ والأذى، وإذا كان ثمة تفاوت فهو في حالِ النَّفْسِ والاحتياط للرياء وسدِّ مداخله " (2).
فالإنفاقُ في كلا الحالين في السِّر وفي العلانية مشروعٌ ومحمودٌ، إلا أنَّ هناك تفصيلاً من ناحية أفضلية أيٍ منهما في أحوالٍ وظروفٍ معينةٍ، وذلك على التفصيل الآتي:
التفصيل في مسألة أفضلية الإنفاق في السر أو في العلانية:
منطلقُ العلماءِ في مسألةِ تفضيلِ الإنفاق سِراً على الإنفاق علانيةً أو بالعكس هو قولُه تعالى: { إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } (3) ، يقول القرطبي: " ذهب جمهورُ المفسرين إلى أنَّ هذه الآيةَ في صدقة التطوُّع؛ لأنَّ الإخفاء فيها أفضل من الإظهار، وكذلك سائر العبادات الإخفاءُ أفضل في تطوِّعها لانتفاء الرِّياء عنها، وليس كذلك الواجبات. قال الحسن: إظهار الزكاة أحسن، وإخفاء التطوُّع أفضل؛ لأنه أدلّ على أنه يراد الله عز وجل به وحده " (4).
ويُروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: " جَعَل اللهُ صدقةَ السِّر في التطوع تفضل على علانيتها سبعين ضعفاً، وجعل صدقةَ الفريضة علانيتها أفضل من سِرها بخمسة وعشرين ضعفاً " (5) .
وقال ابن العربي: " أَمَّا صَدَقَةُ الْفَرْضِ فَلا خِلافَ أنَّ إظْهَارَهَا أَفضَـلُ، كَصَلاةِ الفَرْضِ وَسَائِرِ فَرَائِضِ الشرِيعَةِ؛ لأَنَّ المَرءَ يُحْرِزُ بِهَا إسلامَهُ، وَيَعصِمُ مَالَهُ "، ثم قال في مسألةِ صدَقَة النفل: " وَالتحقِيقُ فِيهِ أَنَّ الحَالَ في الصدَقَةِ تَختَلِفُ بِحَالِ المُعطِي لَهَا وَالمُعطَى إيَّاهَا وَالناسِ الشاهِدِينَ لَهَا، أَمَّا المُعطِي فَلَهُ فَائِدَةُ إظهَارِ السُّنة وَثَوَابِ القُدرَةِ، وَآفَتُهَا الرِّياءُ وَالمَنُّ وَالأَذَى، وَأَمَّا المُعطَى إيَّاهَا فَإِنَّ السرَّ أَسلَمُ لَهُ مِن احتِقَارِ الناسِ لَهُ أَو نِسبَتِهِ إلَى أَنَّه أَخَذَهَا مَعَ الغِنَى عَنهَا وَتَرَكَ التعَفُّف، وَأَمَّا حَالُ الناسِ فَالسِّرُ عَنهُم أَفضَلُ مِن العَلانِيَةِ لَهُم، مِن جِهَةِ أَنهُم رُبما طَعَنُوا عَلَى المُعطِي لَهَا بِالرياء، وَعَلَى الآخِذِ لَهَا بِالاستِثنَاءِ؛ وَلَهُم فِيهَا تَحرِيكُ القُلُوبِ إلَى الصَّدَقة، لَكِنَّ هَذَا اليَومَ قَلِيلٌ " (6) .
وبعضُ العلماءِ يرى أنَّ أفضليةَ إخفاءِ الصَّدقةِ مقيَّدَةٌ بإيتاء الفقراء خاصَّةً لا في كلِّ الصدقات تماشياً مع منطوق الآية، يقول ابنُ القيم: " تأمَّل تقييدَه تعالى الإخفاء بإيتاء الفقراء خاصَّةً، ولم يقل: وإنْ تُخفوها فهو خيرٌ لكم، فإنَّ مِنَ الصَّدقةِ ما لا يمكن إخفاؤه كتجهيزِ جيشٍ وبناءِ قنطرةٍ وإجراءِ نهرٍ أو غير ذلك " (7) .
من خلال أقوالِ العلماءِ في المسألة يبدو أنَّ أكثرَ العلماءِ يرون أنَّ الأفضلَ في الصَّدقاتِ الواجبة الإظهارُ، وأمَّا في سائرِ الصدقاتِ المندوبةِ والمستحَبةِ فالأفضلُ فيها الإخفاءُ والإسرارُ، وهذا في الأحوال العادية، أمَّا في أحوالٍ أخرى استثنائيةٍ فيمكن النظرُ في المصلحة المتحقِّقة بين إخفاءِ أو إسرارِ الصَّدقةِ الواجبةِ أو النافلةِ، وذلك على التفصيل الذي ذكره الإمام أبو بكر ابن العربي فيما تمَّ نقلُه عنه في الأسطر السابقة، وهذا ما يذهب إليه الباحثُ ويراه راجحاً.
آيات الإنفاق في السر والعلانية وتربيتها لِنَفْسِ المُنفِِق:
يُلاحَظ في آياتِ الإنفاقِ في القرآنِ الكريمِ عامَّةً من خلالِ التأمُّلِ والتدبرِ أنها كثيراً ما تربط بين عملية الإنفاق وبين تربية الأفراد وتوجيهِهم سلوكياً، وهذا يشير إلى أهمية الدور التربوي في نشاط الإنفاق بشكلٍ خاص وفي سائر الأنشطة الاقتصادية بشكل عام.
والنَّفْسُ البشرية لَمَّا كان من طِباعِها حبُّ الثناءِ والمحمدةِ من الناس والرغبة في تعجيلِ الشكر منهم جاءتْ آياتُ الإنفاقِ لكي تُعالِجَ هذا الجانبَ وتُزكيَه وتُروِّضَه على ما هو أسمى وأعلى، فَدَعتْ الآياتُ القرآنيةُ المؤمنينَ إلى الإنفاق في السر والخفاء بعيداً عن أعين الناس، بل كلُّ آياتِ الإنفاقِ قدَّمتْ في سياقِها الإنفاقَ سراً على الإنفاقِ جهراً، وذلك للإشارة إلى أفضلية إنفاق السِّر، وذلك كما في قولِه سبحانه وتعالى : { قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ } (
، وقولِه سبحانه وتعالى: { الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } (9).
فالإنفاق في السر يُرَبِّي في نَفْسِ المنفِقِ الإخلاصَ لله تعالى وَحُسْنَ المراقبةِ له، " إذ في السرية سدٌّ لكلِ ذرائع الرِّياء، ولذلك كان السرُ خيراً للمُعطي، إذ فيه احتياطٌ لنفسه من أن يدخلها داءُ الإنفاقِ وهو الرِّياء، فإذا كان في الجهر فائدةُ الثناء، ففي السر فائدة الاحتياط من الرِّياء، وذلك خيرٌ من كل ثناء " (10).
ومن ناحيةٍ أخرى فإنَّ الإنفاقَ في السِّر يُعوِّدُ الأفرادَ على البذلِ ويُسهِّلُه عليهم، ويُعينهم على تأدية سائر واجباتهم المالية، لأنَّ الذي يَعتادُ على الإنفاقِ في السِّر لن يَثْقُلَ على نفسِه الإنفاقُ جهراً وعَلَناً، وخاصةً حينما تُفرَضُ عليه بعضُ الوظائفِ المالية من قِبَلِ الدولة على سبيل المثال، فَضلاً عن سائر الواجبات المالية الأخرى كالإنفاقِ على الأقارب وعلى من تَجِبُ نفقتهم عليه.
وتوضيح ذلك أنَّ الذي يُنفِقُ في السِّر فإنه يُراقبُ اللهَ سبحانه وتعالى في عملِه ويخشاه ويرجوه ويأملُ أنْ يَتقبلَ منه، كما قال تعالى: { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } (11) ، " أي يعطون العطاءَ وهم خائفون وَجِلُون أن لا يُتقبَلَ منهم لخوفهم أن يكونوا قد قصَّروا في القيام بشروط الإعطاء، وهذا من بابِ الإشفاق والاحتياط " (12) ، فَمِثلُ هؤلاء يَبعد أن يتهربوا من بقية الواجباتِ الماليةِ المطلوبةِ منهم، ولن يقوموا بالاحتيال على القانون من أجل إعفاء أنفسهم عن الإنفاق الواجب، وبالتالي فإنه لا وجودَ في مثل هذا المجتمع لمقولة: القانون لا يحمي المغفلين، لأنَّ الغافلَ في الإسلام حقُّه مصون.
وبعد الإنفاق في السِّر يأتي الإنفاقُ في العَلانية، وهو أنْ يُنفِقَ المرءُ أمامَ مرأى الناس، وهنا تُوْكَلُ نياتُ الأفرادِ إلى الله سبحانه وتعالى، ولكنْ مِنَ المتوقَّعِ بعد التدريب العملي على الإخلاصِ لله تعالى ومراقبتِه عن طريق الإنفاق في السِّر أن تكون نيةُ المُنفِقِ في العَلانية خالصةً لله تعالى، ولعلَّ هذا يكون مَقصِداً من مقاصدِ تشريعِ كلا النوعين: الإنفاق في السِّر والإنفاق في العَلانية.
فَأثرُ الإنفاقِ في العلانيةِ بالنسبة للمُنفِقِ هو غَرْسُ معاني الإخلاص والعبودية لله سبحانه تعالى والتأكيدُ عليها، لأنَّ الإعلانَ بالعمل والجهرَ به لا يقدح بالنيةِ الصادقةِ والقلبِ المتوجِّه إلى الله تعالى، خصوصاً أنَّ الإنفاقَ في السِّر مشـروعٌ لإحكام معنى الإخلاص لله سبحانه وتعالى في نفوس المؤمنين، وبالتالي سيَضمن ذلك صـلاحَ النيةِ بالنسبة إلى المُنفِق علانيةً إلى حد كبير، ولن يخشى المُنفِقُ حينئذٍ من بطـلان عملِه الذي أَعَلَن وجَهَر به، وهذا جانبٌ تربوي عظيم لِمَنْ تأمَّله.
وهكذا يُسْهِمُ الإنفاقُ في السِّر والإنفاقُ في العَلانية في تكوين الشخصية الاقتصادية الإسلامية السويَّة، فهي متصلةٌ بربها وخالقها حينما تقوم بممارسة دورها الاقتصادي، وتحترم القوانين والأنظمة ولا تتجاوزها باحتيالٍ أو مراوغة، وتَجعل رقابةَ اللهِ تعالى فوقَ كلِّ رقابة، وما أحوج الأنظمة الاقتصادية في عصرنا المادي الحاضر لمثل هذه التربية الربانية للأفراد.
الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية للإنفاق في السِّر وفي العَلانية:
للإنفاقِ سِراً وعَلانيةً أبعادٌ اقتصاديةٌ وأخرى اجتماعيةٌ، ويمكن الوقوفُ عليها من خلال التفصيل الآتي:
أولاً: الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية للإنفاق في السر:
أ- البعد الاقتصادي للإنفاق سِراً :
من الناحية الاقتصادية يمكن القولُ بأنَّ الإنفاقَ في السر يُوجِدُ عنصراً خَفيَّاً من عناصر الحقن في النظام الاقتصادي، وهذا العنصر لا يمكن حسابُه ضمن الناتج المحلي الإجمالي كما يَتِمُّ حسابُ أموالِ الزكاة، لأنَّ الدولةَ الإسلاميةَ مأمورةٌ شرعاً بجبايةِ أموال الزكاة وحسابِ مقاديرِها ووضعِها في بيوت الزكاة المُخَصَّصة لها، أمَّا الإنفاقُ في السر فغالباً ما يكون في صدقات التطوع التي هي في نهاية الأمر اختياريةٌ وغيرُ واجبةٍ على الأفراد، والدولةُ غيرُ مُكلَّفةٌ بحسابِ أو جبايةِ هذا النوع من الإنفاق.
فهذا الإنفاقُ يُوجِدُ طلباً غيرَ محسوبٍ ضمن المتدفق الدائري لحسابات الدخل القومي في المجتمع الاقتصادي، بل قد يُغطِّي نقصاً حاصلاً في الطلب في أي قطاعٍ من القطاعات، لأنَّ الإنفاقَ المُستحَبَّ ليس له مصارف محدَّدة بل يمكن توجيهه إلى أي وجهٍ من وجوه البِر، وهذه خَصِيصَةٌ في الاقتصاد الإسلامي لا توجد في الاقتصاديات الوضعية.
ب- البعد الاجتماعي للإنفاق سراً:
تَقدَّم الحديثُ في الأسطر السابقة عن الأثر التربوي للإنفاق سراً على المُنفِق، وكيف أنَّ الإنفاقَ سراً يُسْهِم في تكوين الشخصية الإسلامية ذات الأبعاد الدينية والأخلاقية الراقية، وهنا في المقابل نجد أنَّ الإنفاقَ سِراً له آثارٌ أخرى على الجهة المقابلة لعملية الإنفاق وهي الآخِذةُ والمتلقية، وكذلك على الناس الشاهدين من سائر المجتمع.
أمَّا الآخذُ وهو الفقير أو المسكين صاحب الحاجةِ فإنَّ الأرفقَ بكرامتِه والأولى بإنسانيتِه أن لا يعلمَ أحدٌ بأخْذِه للصدَقَة، وأنْ يأخذَ صدقتَه في الخَفاء بعيداً عن أعين الناس، وقد عبَّر الإمام الغزالي عن أخذ الصدَقَة في الخفاء: " أنَّه أبقى للستر على الآخِذ، فإنَّ أَخْذَه ظَاهِراً هَتْكٌ لستر المروءة، وكشفٌ عن الحاجة، وخروجٌ عن هيئة التعففِ والتصوِّنِ المحبوبِ الذي يحسب الجاهلُ أهلَه أغنياء من التعفف "، وكذلك " أنَّ في إظهارِ الأخذِ ذُلاً وامتهاناً، وليس للمؤمن أنْ يُذِلَ نفسَه " (13) .
وأمَّا بالنسبة لأثرِ الإنفاقِ سراً على بقيةِ الناسِ الشاهدين فإنَّ في إخفاءِ عمليةِ الإنفاقِ عنهم حِفظاً لألسنتهم من سوءِ الظنِّ والحَسَدِ والخوضِ في الأعراض والقيل والقال، قال الغزالي في فوائد إخفاء الصدقة بالنسبة للناس: " أنَّه أسلم لقلوب الناس وألسنتهم، فإنهم ربما يحسدون أو ينكرون عليه أخْذَه ويظنون أنَّه آخذٌ مع الاستغناء أو ينسبونه إلى أخذِ زيادة، والحَسَدُ وسوءُ الظنِ والغيبةُ من الذنوب الكبائر وصيانتهم عن هذه الجرائم أولى " (14).
وهكذا هي الآثار الاجتماعية للإنفاقِ في السِّر تَحْفَظُ كرامةَ الفقير وتُقِيم إنسانيتَه وتراعي مشاعرَه، وكذلك تَحمِي المجتمعَ من الأخلاقِ الرديئةِ ومن سوءِ الظنِ والحقدِ وكثرةِ الكلام فيما لا ينفع واتهامِ الناسِ بما ليس فيهم.
نموذج للأثر الاقتصادي والاجتماعي لصدقة السر ( علي بن الحسين رضي الله عنه ):
كان زينُ العابدين علي بن الحسين رضي الله عنهما يحمل جِرَابَ الخُبْز على ظهره بالليل فيتصدَّق به، ويقول: إنَّ صدقةَ السر تطفئ غضبَ الربِ عزَّ و جلَّ (15) ، و كان ناسٌ من أهل المدينة يعيشون، لا يدرون من أين كان معاشهم، فلمَّا مات علي بن الحسين، فقدوا ذلك الذي كانوا يؤتون بالليل ، و لمَّا مات رضي الله عنه وغسَّلوه جعلوا ينظرون إلى آثارِ سَوادٍ في ظهره، فقالوا: ما هذا ؟ فقالوا: كان يَحْمِلُ جُرُبَ الدَّقيقِ ليلاً على ظهره يعطيه فقراءَ أهلِ المدينة (16) .
هذه القصةُ نموذجٌ لحال المجتمع الإسلامي الذي يطبِّق المنهجَ الإسلامي ويسير في ظلال أحكامِه وتعاليمِه، فأناسٌ فقراء يعيشون ويُرزَقون قوتَ يومِهم بسبب صدَقَة السِّر، لا يدري أحدٌ عن المُنفِقِ ولا عن المُنفَقِ عليهم، ممَّا يَحْفَظُ كرامةَ الفقراء ويُبعِدُ كلامَ الناس عنهم، ومن الناحية الاقتصادية هناك حفزٌ للطلب مِنْ قِبَلِ هذه الشريحة الآخِذة للصدَقَة ممَّا يتركُ آثارَه الإيجابية على سائر النشاط الاقتصادي، كلُّ ذلك نتيجة للإنفاق سراً، وما زالت تلك النماذجُ المشرقةُ مستمرةً إلى يومنا هذا وذلك بسبب عِظَم الثوابِ المترتِّبِ على صدَقَةِ السِّر.
ثانياً: الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية للإنفاق علانيةً:
أ- البعد الاقتصادي للإنفاق العَلَني :
بغضِّ النظر عن نوع هذا الإنفاق أكان واجباً أم مستحباً فإنَّ من أبرز الآثار هو تَداعي الأفراد والمؤسسات وسائر الجهات إلى التأسي والاقتداء ببعضهم البعض، بل إلى التنافس فيما بينهم في قَدْرِ الإنفاق وحجمِه، وهذا مُلاحَظٌ جداً لاسيما في عصر الفضائيات وباقي وسائل الإعلام العصرية المختلفة، فما أنْ يُدعَى الناسُ إلى الإنفاق لدعم قضيةٍ إنسانيةٍ أو أمرٍ آخَر إلا تَجِدُ الإقبال على الإنفـاق بشكل كبير وملحوظ، وقد قيل: إنَّ " الاقتداء في الصَّدَقَة على الطباع أغلب " (17).
وأكثر ما يكون الاقتداء والتأسي أثراً عندما يكون المُنفِقون هم الزعماءَ والعلماءَ والوجهاءَ ومن لهم شأنٌ في المجتمع، لأنَّ الناسَ في الغالب متعلِّقون بهؤلاء ومترقبون لتصرفاتهم، فهذه الشريحة أقرب للتأسي والاقتداء بهم من غيرهم، وبالتالي يكون إظهار الإنفاق منهم أولى وأفضل، لذا استحبَّ بعضُ الفقهاء لمثل هؤلاء إظهارَ الصدَقَةِ للمعنى السابق، قال زكريا الأنصاري من فقهاء الشافعية: " وأمَّا الإمامُ فالإظهارُ له أفضلُ مُطلقاً " (18) ، أي في إظهار الزكاة الواجبة.
وقد يكون مناسباً تقنينُ هذه الطريقة، أي إعلان الأسماء وهويات الأشخاص والمؤسسات التي تؤدي فريضة الزكاة في حال كونِ الشريعة مطبَّقةً في تلك البلاد، فكلُّ جهةٍ أو شخصٍ يؤدي ما عليه من زكواتٍٍ وواجبات مالية يُعْلَنُ عن ذلك للناس، وذلك من أجل مسألة الاقتداء والتأسي به من قِبَلِ عامَّةِ الناس.
وهكذا فإنَّ الفعالية الاقتصادية في المجتمع تكون أكثر نشاطاً وحراكاً في حال كون الإنفاق علانيةً، وهذا أثر اقتصادي إيجابي راجع إلى مشروعية هذا النوع من الإنفاق.
ب- البعد الاجتماعي للإنفاق العَلَني:
كان من مصلحة الآخِذِ للصدَقَة أن يكون ذلك سراً بغير علمِ أحدٍ حِفْظاً لمشاعره وكرامته كما سبق، أمَّا بالنسبة للمُنفِقِ فإنَّه قد يكون من مصلحتِه أن تكون الصدَقَةُ علانيةً أمامَ الناسِ وذلك حتى تنتفي تُهمَةُ عدمِ أدائِه الزكاة الواجبة في أمواله (19) ، فإنَّ الناس إذا لم يروا صاحبَ المال يؤدي الزكاة أمام مرأى أعينهم تسارعتْ إليهم الظنونُ والاتهاماتُ له.
وكونُ الإنفاقِ علانيةً قد يحقِّقُ مصلحةً للمُنفِقِ لا يناقض القولَ بأفضلية الإنفاق سراً لمصلحة كرامة الفقير، لأنَّه لا يُشترَطُ إعطاءُ الفقيرِ مباشرةً في يده بل يمكن توصيلُ ذلك عن طريق الوسائط من جهاتٍ مسئولةٍ وجمعياتٍ خيريةٍ، وكذلك ليس كلُّ إنفاقٍ يختص بالفقراء والمحتاجين فقط، بل هناك وجوهٌ أخرى لا يُراعَى فيها الجوانب النفسية والمشاعر الإنسانية كالإنفاق على مصرف ( في سبيل الله )، وكسائر أبواب الخير والبر، فهنا يمكن للمُنفِقِ أنْ يُعلِنَ عن إنفاقِه ويتحدَّث به بين الناس من غير حَرَجٍ، بشرط أن يُراعِي مسألةَ الرِّياء فيما بينه وبين ربه بحيث يُخْلِصُ عملَه لله تعالى.
ولكن في حال ابتداء الفقير السؤال أمام الناس فهنا لا معنى لمراعاة كرامته لأنَّه هو الذي كشف ستره، فهنا لا بأس للمُنفِقِ أنْ يعطيه أمام الناس.
وبذلك يُحقِّقُ الإنفاقُ أهدافَه الاقتصادية والاجتماعية على السواء، من غير فَصْلٍ بين الجانب الاجتماعي والجانب الاقتصادي، فكلُّ واحدٍ مرتبطٌ بالآخر.
وهكذا يُمثِّل الإنفاقُ سراً وعلانيةً مَظْهَراً من مظاهر التوازن في الاقتصاد الإسلامي، فالإنفاق سراً له وجوهه الاقتصادية وآثاره الاجتماعية، وكذلك الإنفاق علانيةً، كلٌ بحَسَبِه وما يتناسب معه.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
----------
(1) سورة البقرة، الآية 271.
(2) أبو زهرة، محمد: زهرة التفاسير (2/1019)، دار الفكر العربي، القاهرة.
(3) سورة البقرة، الآية 271.
(4) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، (3/332)، دار الكتب العلمية، بيروت.
(5) انظر: السيوطي: الدر المنثور في التفسير بالمأثور، (2/77)، دار الفكر، بيروت.
(6) ابن العربي: أحكام القرآن، (1/315)، دار الكتب العلمية، بيروت، 1416 هـ - 1996م.
(7) ابن القيم، محمد بن أبي بكر: التفسير القيِّم للإمام ابن القيم ص 170، جَمَعَه: محمد أويس الندوي، دار الرائد العربي، بيروت، ط1، 1408هـ - 1988م.
(
سورة إبراهيم، الآية 31.
(9) سورة البقرة، الآية 274.
(10) أبو زهرة: زهرة التفاسير، (2/1019)، دار الفكر العربي، القاهرة.
(11) سورة المؤمنون، الآيتان 60، 61.
(12) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، (5/417)، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
(13) الغزالي، محمد بن محمد: إحياء علوم الدين (1/215)، دار الفكر، بيروت، 1995م.
(14) المرجع السابق (1/215).
(15) ( إنَّ صدقة السر تطفئ غضب الرب ) أصله حديث نبوي شريف، رواه الطبراني في المعجم الأوسط، (1/289)، برقم (943)، دار الحرمين، القاهرة، 1425هـ - 1995م، وغيره من مدوَّنات السُّنَّة، وقد اختلف أهل الحديث في تصحيح الحديث وتضعيفه، حيث ضعَّف الحافظُ ابنُ حجر أسانيدَ هذا الحديثِ في تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، (3/247)، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 2، 1427هـ - 2006م، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته، (2/702)، برقم (3759)، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 2، 1406هـ - 1986م.
(16) انظر في أخباره رضي الله عنه: الذهبي: سير أعلام النبلاء، (5/332)، دار الفكر، بيروت، 1997م، وابن الجوزي، عبد الرحمن بن علي: صفة الصفوة (2/96)، دار المعرفة، بيروت، ط 2، 1399هـ - 1979م.
(17) الغزالي: إحياء علوم الدين، مرجع سابق، (3/232).
(18) الأنصاري، زكريا بن محمد : أسنى المطالب شرح روض الطالب (2/529)، دار الكتب العلمية، بيروت، 2001م.
(19) انظر: الرازي: تفسير الرازي المُسمَّى بـ مفاتيح الغيب، (7/61)، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
المصدر اسلاميات