بسم الله الرحمن الرحيم
الفضيلة الأولى:
صحبة الصديق ومرافقته للنبي صلى الله عليه وسلم في الغار دون بقية أصحابه.
هذه المنقبة اختص بها بنص القرآن والسنة, وصدر بها أئمة السنة كالبخاري ومسلم فضائل الصديق رضي الله عنه.
قال الله تعالى (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(40).(التوبة).
هنا وقفات:
الأولى: قال البغوي رحمه الله في تفسيره (4 / 49):
"{ ثَانِيَ اثْنَيْنِ } أي هو أحد الاثنين، والاثنان: أحدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآخر أبو بكر الصديق رضي الله عنه، { إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ } وهو نقب في جبل ثور بمكة، { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } قال الشعبي: عاتب الله عز وجل أهل الأرض جميعا في هذه الآية غير أبي بكر الصديق رضي الله عنه".
الثانية: قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (2 / 437):
" قال تعالى: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} أي تأييده ونصره عليه أي على الرسول صلى الله عليه وسلم في أشهر القولين وقيل على أبي بكر, وروي عن ابن عباس وغيره قالوا: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم تزل معه سكينة وهذا لا ينافي تجدد سكينة خاصة بتلك الحال ولهذا قال: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} أي الملائكة {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا}".
فابن كثير رحمه الله يميل إلى ترجيح القول الأول بأن نزول السكينة كان على الرسول صلى الله عليه وسلم, ويستعمل سياق الآية في تقوية هذا القول.
إلا أن الرازي ضعف هذا القول, وساق عدة أوجه لنصرة القول الثاني (مفاتيح الغيب(16 / 53):
قال :" ومن قال الضمير في قوله عَلَيْهِ عائداً إلى الرسول فهذا باطل لوجوه:
الوجه الأول أن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات وأقرب المذكورات المتقدمة في هذه الآية هو أبو بكر لأنه تعالى قال إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ والتقدير إذ يقول محمد لصاحبه أبي بكر لا تحزن وعلى هذا التقدير فأقرب المذكورات السابقة هو أبو بكر فوجب عود الضمير إليه.
والوجه الثاني: أن الحزن والخوف كان حاصلاً لأبي بكر لا للرسول عليه الصلاة والسلام فإنه عليه السلام كان آمناً ساكن القلب بما وعده الله أن ينصره على قريش فلما قال لأبي بكر لا تحزن صار آمناً فصرف السكينة إلى أبي بكر ليصير ذلك سبباً لزوال خوفه أولى من صرفها إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مع أنه قبل ذلك ساكن القلب قوي النفس.
والوجه الثالث: أنه لو كان المراد إنزال السكينة على الرسول لوجب أن يقال إن الرسول كان قبل ذلك خائفاً ولو كان الأمر كذلك لما أمكنه أن يقول لأبي بكر (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) فمن كان خائفاً كيف يمكنه أن يزيل الخوف عن قلب غيره ولو كان الأمر على ما قالوه لوجب أن يقال فأنزل الله سكينته عليه فقال لصاحبه لا تحزن ولما لم يكن كذلك بل ذكر أولاً أنه عليه الصلاة والسلام قال لصاحبه لا تحزن ثم ذكر بفاء التعقيب نزول السكينة وهو قوله (فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) علمنا أن نزول هذه السكينة مسبوق بحصول السكينة في قلب الرسول عليه الصلاة والسلام ومتى كان الأمر كذلك وجب أن تكون هذه السكينة نازلة على قلب أبي بكر فإن قيل وجب أن يكون قوله (فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) المراد منه أنه أنزل سكينته على قلب الرسول والدليل عليه أنه عطف عليه قوله (وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا) وهذا لا يليق إلا بالرسول والمعطوف يجب كونه مشاركاً للمعطوف عليه فلما كان هذا المعطوف عائداً إلى الرسول وجب في المعطوف عليه أن يكون عائداً إلى الرسول.
قلنا هذا ضعيف لأن قوله (وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا) إشارة إلى قصة بدر وهو معطوف على قوله (فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ) وتقدير الآية إلا تنصروه فقد نصره الله في واقعة الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها في واقعة بدر وإذا كان الأمر كذلك فقد سقط هذا السؤال"اهـ.
قلت: والقاعدة في مثل هذه المسألة تقول:"توحيد مرجع الضمائر في السياق الواحد أولى من تفريقها". أي إذا جاءت ضمائر متعددة في سياق واحد واحتملت في مرجعها أقوالا متعددة, فالقول بتوحيد مرجعها هو الأولى.
فلاحظ سياق الآية الكريمة جاء فيه عدة ضمائر:"تنصروه","نصره","أخرجه","لصاحبه","عليه","وأيده".
فالقول أن مرجع الضمير في قوله تعالى {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو الأحسن حتى ينسجم النظم ويتسق السياق.
الثالثة: قال الرازي رحمه الله في تفسيره:"أنه تعالى وصف أبا بكر بكونه صاحباً للرسول وذلك يدل على كمال الفضل. قال الحسين بن فضيل البجلي : من أنكر أن يكون أبو بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان كافراً ، لأن الأمة مجمعة على أن المراد من {إِذْ يَقُولُ لِصَـاحِبِه } هو أبو بكر".
الرابعة: قال الرازي في تفسيره: (1 / 2221):
"والوجه السابع : في دلالة هذه الآية على فضل أبي بكر. قوله : {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } ولا شك أن المراد من هذه المعية ، المعية بالحفظ والنصرة والحراسة والمعونة ، وبالجملة فالرسول عليه الصلاة والسلام شرك بين نفسه وبين أبي بكر في هذه المعية ، فإن حملوا هذه المعية على وجه فاسد ، لزمهم إدخال الرسول فيه ، وإن حملوها على محمل رفيع شريف ، لزمهم إدخال أبي بكر فيه ، ونقول بعبارة أخرى ، دلت الآية على أن أبا بكر كان الله معه ، وكل من كان الله معه فإنه يكون من المتقين المحسنين ، لقوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (النحل : 128) والمراد منه الحصر ، والمعنى : إن الله مع الذين اتقوا لا مع غيرهم ، وذلك يدل على أن أبا بكر من المتقين المحسنين".
الخامسة: قال القرطبي رحمه الله في تفسيره(8 / 147):
"قلت: ولهذا قال بعض العلماء: في قوله تعالى: " ثاني اثنين إذ هما في الغار " ما يدل على أن الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، لان الخليفة لا يكون أبدا إلا ثانيا".
السادسة: قال ابن العربي: قال لنا أبو الفضائل العدل قال لنا جمال الاسلام أبو القاسم قال موسى صلى الله عليه وسلم: " كلا إن معي ربي سيهدين "[ الشعراء: 62 ] وقال في محمد صلى الله عليه وسلم: " لا تحزن إن الله معنا " لا جرم لما كان الله مع موسى وحده ارتد أصحابه بعده، فرجع من عند ربه ووجدهم يعبدون العجل.
ولما قال في محمد صلى الله عليه وسلم " لا تحزن إن الله معنا " بقي أبو بكر مهتديا موحدا عالما جازما قائما بالأمر ولم يتطرق إليه اختلال".
السابعة: يقول الشيخ الشعراوي رحمه الله في تفسيره( / 1262):
"وقف المستشرقون عند قول الحق سبحانه: { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ } وكعادتهم - كمشككين في الإسلام - نجدهم يبذلون جهداً كبيراً في محاولة التصيد لأخطاء يتوهمونها في القرآن الكريم فيقولون: إن مهابة القرآن وقدسيته عندكم أيها المسلمون لا تُمكِّن أذهانكم من الجراءة اللازمة للبحث في أساليبه؛ لتكتشفوا ما فيه من الخلل. ولكن إن نظرتم إلى القرآن ككتاب عادي لا قداسة له سوف تجدون فيه التضارب والاختلاف.